الرئيس مام جلال.. حكيم السياسة وصمام الأمان في العراق

الآراء 11:04 AM - 2025-10-03
مام جلال PUKMEDIA

مام جلال

الرئيس مام جلال

تمر اليوم الذكرى الثامنة لرحيل الرئيس جلال طالباني (مام جلال)، ذلك القائد الكوردي الكبير الذي ارتبط اسمه بتاريخ العراق الحديث، وترك إرثاً سياسياً ونضالياً سيظل شاهداً على مرحلة مفصلية من تاريخ المنطقة. لم يكن رحيله حدثاً عادياً، بل خسارة وطنية كبرى، لأنه كان يمثل شخصية جامعة استطاعت أن تمزج بين النضال الثوري والفكر السياسي الحكيم.
بدأ مام جلال مسيرته السياسية مبكراً، وانخرط في النضال الكوردي مدافعاً عن حقوق شعبه. كان من أبرز المؤسسين للاتحاد الوطني الكوردستاني عام 1975، ومنذ ذلك الحين ظل رمزاً للمقاومة والتضحية. عرف بشجاعته في ميادين البيشمركة، لكنه تميز في الوقت نفسه بقدرته على الجمع بين السلاح والسياسة، بين القوة الميدانية والحوار الدبلوماسي، وهي سمة نادرة قلّما نجدها في القادة. وكان يردد دائماً: الكوردي الحقيقي هو من يقاتل بالسلاح ساعة الحاجة، ويمد يده للسلام ساعة البناء .
بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003، برز مام جلال كأحد أهم رموز المرحلة الانتقالية. كان من أوائل القادة الذين أدركوا أن العراق بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يضمن مشاركة جميع مكوناته في الحكم. ومن هنا جاءت بصمته الواضحة في صياغة العملية السياسية الجديدة، ليصبح أول رئيس لجمهورية العراق من القومية الكوردية، وهو إنجاز تاريخي عكس مكانته الوطنية ودوره التوافقي ، وكان يقول في تلك المرحلة: العراق وطن الجميع، ولا ينهض إلا بتكاتف جميع أبنائه .
ما يميز مام جلال أنه لم يكن مجرد رئيس بروتوكولي، بل كان (بيضة القبان) في معادلة السياسة العراقية. في كل أزمة سياسية أو صراع داخلي، كان صوته مرجحاً وحكمته ضامنة لتجنب الانهيار. نجح في تقريب المواقف بين قادة الأحزاب العراقية، سواء كانوا من الشيعة أو السنة أو الكورد، كما سعى لترسيخ التوازن بين مختلف الطوائف والأديان. ومن أقواله الخالدة: لا يمكن أن يحكم العراق طرف واحد، لأن العراق لوحة متعددة الألوان.
كان مام جلال يؤمن بأن السياسة فن الممكن، وأن إدارة الخلافات تحتاج أحياناً إلى الحزم وأحياناً إلى المرونة. لذلك عُرف بسياسة  (شدة ورد) التي اتبعها بذكاء، خصوصاً في مدينة كركوك ذات التركيبة المعقدة. بفضل حكمته، استطاع أن يجنب المدينة الكثير من الانزلاقات الخطيرة، وظل صوته داعياً للتعايش والسلم الأهلي . 
امتدت مكانة مام جلال إلى خارج حدود العراق، حيث حظي باحترام واسع من قبل القادة الدوليين. كان ضيفاً دائماً في المحافل الإقليمية والدولية، وصوتاً عاقلاً وسط صخب الأزمات. أدرك العالم أن الرجل لا يتحدث باسم الكورد فقط، بل باسم عراق يسعى ليكون دولة موحدة مستقرة. لذلك وصفه بعض القادة بأنه (حكيم الشرق الأوسط) ، ورأوا فيه رجل الحوار والسلام وصوت العقلانية .
يبقى إرث مام جلال ممتداً في ذاكرة الأجيال، فهو لم يكن زعيماً سياسياً عادياً، بل مدرسة في القيادة والفكر ، ترك خلفه مثالاً في الوطنية الصادقة والقدرة على بناء الجسور بين المختلفين، ليظل اسمه مرتبطاً بالوفاء والحكمة والنضال من أجل الحرية والديمقراطية .
إلى جانب دوره الوطني، كان لمام جلال حضور خاص في كركوك، المدينة التي تعكس تنوع العراق وتعدد هوياته. أدرك الراحل مبكراً أهمية هذه المدينة كرمز للتعايش المشترك، فدافع عن هويتها الجامعة، وعمل على تعزيز أجواء التفاهم بين مكوناتها. كما كان مؤمناً بأن الثقافة والإعلام يمثلان ركيزة أساسية في ترسيخ السلم الأهلي، لذلك دعم المؤسسات الثقافية والإعلامية في كركوك، وشجع الكفاءات الصحفية والأدبية، إيماناً منه بأن الكلمة الحرة والفكر المستنير أقوى سلاح في مواجهة الانقسام. وكان يؤكد دوماً : حرية الصحافة هي ضمانة الحرية لكل مواطن.
رحل مام جلال، لكن صوته ما زال يتردد في قاعات السياسة وأذهان الشعب، وابتسامته التي جمعت القلوب ما زالت حاضرة في ذاكرة الأجيال. كان أباً روحياً للعراق بكل أطيافه، وملاذاً حين تضيق الأزمات، وجسراً يربط بين المختلفين. وفي هذه الذكرى الأليمة، لا نملك إلا أن نقول: ستبقی رمزا شامخاً يا مام جلال، فقد رحلت جسداً، لكنك بقيت روحاً خالدة وضميراً حياً للأمة والوطن.

رزكار شواني

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket