الكاتب والأديب فاروق مصطفى: كركوك هي الشمس التي تدفأتْ تحت أشعتها أيامي المتمردة

لقاءات 05:39 PM - 2021-11-12

 فاروق مصطفى هذا الكاتب الكركوكي الذي عشق المدينة بثقافتها وشعرها منذ الصغر وحاول أن يخترق أسرارها من خلال الوصول الى أذهان معظم كتابها المعروفين من جماعة كركوك، ولم يقف عند هذا الحد بل عاصر كتاب فطاحل آخرون متأثرا بكتاباتهم الادبية وله حضور واسع في الامسيات والندوات الثقافية التي تشهدها تلك المدينة العريقة الغنية بالثقافات من مختلف القوميات الموجودة فيهاز
 وكان لـ PUKmedia هذا الحوار معه: 

* هل لنا أن نعرف نبذة عن حياة الكاتب فاروق مصطفى ؟
في محلة (جرت ميدان)، ميدان الفروسية القريبة من ساحة الطيران والمشرفة على مقبرة (سيد علاوي) المحاذية لبساتين كاورباغي أبصرت النور عام 1946 هكذا تتحدث أوراقي الثبوتية، لقد قذفت إلى هذه الزاوية من هذا الكون الكبير، وعندما سربلني الوعي أدركت أنني انتمي إلى أسرة وأنا آخر عنقودها الذكوري، حيث تقدمني سبعة ذكور وشقيقة واحدة، تتلمذت في مدارس كركوك الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، ولكن الأكاديمية التي تشربت طفولتي بمائها وهوائها وترابها هي المنطقة التي ولدت فيها، عشقت أناسها ودورها وأشجارها ولقد تركت بصمات أصابعها المحناة بحكاياتها المطلسمة واضحة في كتاباتي، شهادتي الجامعية من كلية الآداب/ قسم اللغة العربية، تعييني في سلك التدريس ثم إيفادي إلى القطر الجزائري وبقائي هناك طوال ستة سنوات، ومن ثم العودة إلى كركوك ثانية وتدريسي  في ثانوية إمام قاسم، ظللت في الأقسام المدرسية أتسلق الجمل الإعرابية واقف مع تلاميذي على دمن الشعراء الجاهليين، أطرق أبواب سيبويه وأبي حيان التوحيدي ورهين المحبين (المعري) إلى أن اكتشفت نفسي عام 1998 أنني أنضجت كهولتي وألزمتها ما لا يلزم، أحلت نفسي إلى المعاش وتفرغت كلياً إلى عالمي الأثير وهي القراءة والكتابة والاحتراق حتى النخاع في أحلام وكوابيس أصدقائي الشعراء والكتاب. 

* متى بدأت الكتابة وأين؟
بدأت الكتابة في فترة المتوسطة، كنت أساهم في النشرات الحائطية التي يشرف عليها عادة أساتذة اللغة العربية، وبعد ذلك بدأت أراسل صحف بغداد وقد ظهرت فيها أولى محاولاتي الشعرية عام 1961، وبعد ذلك طفقت أنشر كتاباتي الأدبية في جريدة (الأخبار) البغدادية وأذكر جيداً أني أرسلت كتابة نقدية بسيطة عن القصة العراقية القصيرة والى صفحتها الأدبية التي كان يشرف عليها الأستاذ (زهير أحمد القيسي) فنشرها بعد أن مهد لها بقوله (أنشر هذه المقالة لتثير ضجةً، حركة في سبات الأدب)، وقد كان لي إطراء وأنا في عامي السادس عشر ومن جريدة الأخبار انتقلت مساهماتي إلى مجلات وجرائد اخر كمجلة (الأخبار وجريدة (كركوك) ثم صحف بغدادية مثل (البلد والمنار والأنباء الجديدة) ومجلة (الطيران) وغيرها.

* أبرز المحطات الثقافية في حياة الكاتب؟
 كانت دارنا إبان فترة الخمسينات مشغلاً حكائياً سردياً لمرويات تذهب بمخيلتي الطفولية كل مذهب، أعيد الذاكرة إلى تلك الأيام فأجد افراد أسرتي يتبارون في قص حكاياتهم، وكل واحد منهم حكاء يلقي حكاياته الواقعية والخيالية، لقد أصغيت منهم بشغف إلى العديد من حكايات ألف ليلة وليلة، ومازالت أذكر أحد أشقائي وقد تلا علينا رواية (اللقيطة) لمحمد عبد الحليم عبد الله، كلمة كلمة وصفحة صفحة ثم أعقبها برواية أخرى له تحمل عنوان (شجرة اللبلاب)، لم يكن جهاز (التلفاز) قد غزا البيوت الكركوكية، كان هناك الحالي والمذياع فقط، إن الإصغاء إلى مرويات الأشقاء وقصصهم المحلية منحني خيالاً ألقى بي إلى الأقاليم الواقعة خارج مدينتي ثم بدأت أتبادل القصص البوليسية مع أصدقاء المحلة.. ولا بد من الإشارة إلى أخي فائق، (الدكتور الآن) كان دائماً يعود إلى المنزل محملاً بالكتب والمجلات وبعد ذلك اكتشفت طريقي إلى المكتبة العامة، وعندما صعدت تسلالمها المرمرية كأنني عثرت على قصر سحري أمضيت أعواماً وأنا أقرأ وأحلم داخل قاعتها الحميمة، في عام 1946 تعرفت (جان دمو) فهو الذي قادني إلى صحبي في (جماعة كركوك) فبدأت معهم صداقة إنسانية ثرة، أثرت كثيراً مداركي وأغنتْ خيالاتي في توقها إلى خارج ما هو مألوف وادي وراكد.

* بمن تأثرت من الكتاب؟
 مع أولى قراءاتي الأدبية تعرفت المنفلوطي فأبحرت معه في مدوناته المنقولة أو الموضوعة.. ثم انتقلت منه إلى العملاق (جرجي زيدان) بهرني جداً وأعياني التفكير كيف استطاع أن يلمَّ بكل أحداث التاريخ المتشبعة ويصوغها في تلك الروايات، غدوت أسير حكاياته أنهي كتاباً ثم أسقط في كتاب ثانٍ له، ثم جاء الساحر (جبران خليل جبران) وكيف أن لغته الشعرية الصافية كانت تولد في مساماتي قشعريرة ورعشات تلقيني في ضفافٍ بعيدة.. وبعد ذلك تعرفت على أشهر كتاب الخمسينات أمثال: السحار، محمد عبد الحليم عبد الله، السباعي، احسان عبد القدوس، نجيب محفوظ..
وهذا الأخير هو الذي بقى تاثيره علينا سارياً في الفقرات اللاحقة لأنه استطاع أن يكتب بتقنياتٍ حديثة ويطور أدواته الفنية... فيما بعد انفتح أمامي أفق الكتاب الروس وفي مقدمتهم الكاتب المعجزة (دوستوفسكي).. هؤلاء بحق أساتذتي لأنني نهلت الكثير من أدبي وسيرهم، وفي فترة الستينات راجت موضة الأدب الوجودي، وساعدت على ذلك مجلة (الأدب) البيروتية حيث تعرفت عبرها (سارتر) و (ألبير كامو) وأحببت الثاني لأنه ينتمي إلى بلاد الجزائر فأدبه في معظمه مستوحى من شمس وبحر وتضاريس الجزائر، ثم (ارنست همنغواي) فنان الفشل البطولي في رواياته (وداعاً للسلاح) و (الشيخ والبحر) و (لاتزال الشمس تشرق).. وأخيراً سرت طويلاً مع الفرنسيين (اندريه مالرو) و (اوكزبري) في علاقاتهما الإنسانية ووقوفهما مع الإنسان وهو يتخبط في متاهاته ودهاليزه بحثاً عن بصيص الأمل الذي يوصله إلى البر الذي يتكئ عليه.

* كركوك في ذهن الكاتب؟
كركوك هي المبتدأ والمنتهى، مبتسمي ومبكاي، الشمس التي تدفأت تحت أشعتها أيامي المتمردة، وأنا صغير شاهدت قلعتها لأول مرة فأحببت أن أخوض في أمواه (الخاصة) لأصل إلى الأميرة التي كانت تسكن هناك ومن يغتسل في تلك الأمواه، فلابد أن يسقط صريع هواها أينما أذهب أملأجيوبي بزبيبها وتينها وأثمار توتها واشم على بعد مئات الأميال روائح نيرانها المتأججة فكركوك مشاهد تنعجن بروحي وتتوحد بدخيلائي إنها ملتصقة بتضاريس الجسد فأنفاسها تلفح وجهي والشوق اليها يكوي العظم ويشوي اللحم وأنا بكتاباتي عنها أحاول أن أعيد النبض إلى أماكنها القديمة كي تسترجع موسيقاها وهارمونيتها وتمنعها من الانزلاق من حافات الذاكرة الفقيرة.

* كيف تنظر للثقافة في كركوك؟
 الثقافة في كركوك ممراعة وغنية وثملة بعشق شعرائها ووجد كتابها وتوله مبدعيها ووجود القوميات المتآخية الأربعة فيها وانصهار وذوبان ثقافاتها في بوتقة حبها، هذا الالتقاء ثم هذا الانصهار يمنحان كركوك ميزة روحية سامية ثم تجد أن كتابها بالإضافة إلى إتقانهم اللغات المحلية فيها يجيدون اللغة الإنكليزية التي تفتح أمامهم النوافذ والأبواب في الإطلالة على ثقافات العالم الفسيح. قلعتها المدروشة ونهرها الذي يغرد شتاءً ثم عندما تأتي الصائفة يشبه عاشقاً هجره معشوقة ونيرانها الأزلية التي تتسنبل في فضائها حدائق من القرنفل الأحمر والأقحوان الريان وتلولها التي يرن عليها صمت حكيم.. أليست كلها صحائف نقرأ فيها الكامل والجميل والحكمة والأدهاش.. وأخيراً دلوني على مدينة مثل كركوك التي لا تتعب من إنجاب شعرائها وكتابها ومبدعيها، فدائماً نجد عند كورنيشها شعراء جددا يخطون ويتأملون المعشوقة القلعة وأمام مكتباتها قراء يبحثون عن آخر الكتب التي صدرت لمحمد شكري أو باموك أو سليم بركات أو حيدر حيدر.. وغيرهم.

* علاقتك بجماعة كركوك الأدبية؟
 دخلت عالم (جماعة كركوك) عن طريق (جان دمو) جواب الشعر والمتسكع الأبدي ففي احد الأيام صعدت وإياه إلى مقهى المدورة (في الوقت الحاضر كافتريا المنورة) واقتربنا من مائدة كان يجلس عندها المرحومان (يوسف الحيدري وجليل القيسي)، وبعد تعارفنا تجددت اللقاءات بيني وبينهم وعرفت بعد ذلك الشاعر (مؤيد الراوي) يقيم الآن في ألمانيا كنت التقي به في مقهى المجيدية والتقيت بسركون بولص ثم صلاح فائق، أما الأستاذ أنور الغساني فكنت أعرفه سابقاً لأنه كان مدرسي في مادة التربية الفنية في المتوسطة الشرقية، وبالنسبة إلى الأب يوسف سعيد كان راعياً للكنيسة الواقعة عند مشارف (ساحة العمال)، جان دمو ينقل اليه كتاباتنا من قصائد وقصص، هاجر إلى السويد والتقى هناك به صديقي الرسام المغترب محمد جلال، أما (فاضل العزاوي) فالتقيت به في بغداد وجالسته طويلاً في مقاهيها الأدبية وهو الوحيد الذي لم تتوطد صداقتي معه، أما البقية فقد صادقتهم جميعاً وتوطدت أواصر الود ووشائج المحبة بيننا،ومازلت علاقتي قوية مع الشاعر صلاح فائق الذي يقيم حاليا في فليبين وقد تحدثت طويلاً عن أولاء أبناء الشمس وعشاق البحر في كتابيَّ: (جماعة كركوك والاستذكارات الناقصة وتسكعات الفقير الكركوكي وايامه المنهزمة).

* في أي وقت يأتيك الإلهام؟
 في الغالب تأتيني فكرة فتظل تتسكع في رأسي ثم تهبط إلى داخلي ثم تصعد مختمرة عند ذاك أحاول أن أكسوها بثياب الكلمات، أما الوقت المناسب للكتابة عندي فهو ساعات الظهيرة بعد أن اصيب شيئاً من القيلولة المخدرة أجلس إلى أوراقي واسترسل في الكتابة ومقولة الكاتب الروسي (باسترناك) تتكسر في مخيالي (الكتابة عذاب والاسترسال فيها أليم).

* الثقافات الخارجة وتأثيرها على الكاتب؟
ليس ثمة أجمل من الوقوف تحت الأمطار والاغتسال بمياهها الدافقة وأن يفتح المرء أزرار قميصه ويترك صدره يستقبل الرياح من الجهات كلها، هواء الغرفة المغلقة النوافذ والمسدلة ستائرها راكد ويغتال كل ما هو جميل..
فالكاتب بحاجة إلى أوكسجين جديد يوسع جدران رئتيه وألاّ يهاب من استقبال رياح المحيطات دون خوف، إن الكاتب دائماً في حاجةٍ إلى دماءٍ جديدة، إلى هواء جديد، فأنا أحلم بحديقتي الشعرية التي ألتقي فيها بالشعراء والكتاب وهم يهبطون من مختلف القطارات القادمة من أنأى المحطات وأبعدها.

 للكاتب والاديب فاروق مصطفی 25 من الاصدارات المختلفة ولايزال يواصل مشواره في المشهد الثقافي الكركوكي .

PUKmedia أجرى الحوار: رزكار شواني

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket