الكنائس الأرثوذكسية والقدّاس في نيقية: السياسة والعقيدة وسباق النفوذ بين الشرق والغرب

الآراء 10:16 AM - 2025-12-13
عباس عبدالرزاق

عباس عبدالرزاق


مقدمة

تستعد مدينة إزنك التركية (نيقية القديمة) لاستضافة قدّاس تاريخي بالتزامن مع مرور 1700 عام على انعقاد المجمع المسكوني الأول سنة 325م، الحدث الذي شكّل ملامح المسيحية كما يعرفها العالم اليوم. وتأتي هذه الاستعدادات متزامنة مع الزيارة الأولى للبابا ليو الرابع عشر إلى تركيا ولبنان، وهي زيارة أخذت منذ اللحظة الأولى طابعًا سياسيًا يفوق طابعها الديني، في ظل صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا عبر بوابة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية.

هذا المقال يسلّط الضوء على جذور الصراع، وتاريخ الكنائس الأرثوذكسية في تركيا، وكيف تحوّلت إلى ملف سياسي واقتصادي، إضافة إلى خلفيات زيارة البابا، والقدّاس المزمع في نيقية.

أولًا: زيارة البابا ليو الرابع عشر… لماذا تركيا أولًا؟

1. البعد الأمريكي في الزيارة

يُشار دائمًا إلى أن ليو الرابع عشر هو «البابا الجديد الأمريكي»—وليس هذا تفصيلًا صغيرًا. فوجود بابا أمريكي للمرة الأولى يفتح الباب أمام تأثير أمريكي أكبر في السياسة الكنسية عالميًا.
اختياره لتركيا ولبنان كأول وجهة لزيارته الرسـمية ليس قرارًا روحيًا محضًا، بل يحمل دلالات سياسية عميقة.

2. دعوة أردوغان… واغتنام اللحظة

ما إن تم تنصيب البابا، حتى وجّه له الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعوة رسمية لزيارة البلاد، مستثمرًا الفرصة التي لم تتحقق للبابا الراحل فرانسيس الذي كان قد خطط لزيارة إزنك عام 2025 لإحياء ذكرى المجمع المسكوني، لكنه توفي قبل أن ينفذها.

هنا التقطت تركيا الخيط:
  •  أردوغان أراد تظهير تركيا باعتبارها مركز المسيحية الشرقية تاريخيًا.
  •  البابا الجديد كان مستعدًا لتأكيد انفتاحه السياسي.
  •  والولايات المتحدة رأت اللحظة مناسبة لموازنة النفوذ الروسي في العالم الأرثوذكسي.

ثانيًا: الكنائس الأرثوذكسية… تعددية عقائدية أم ساحة نفوذ جيوسياسيە

1. فسيفساء الكنائس الأرثوذكسية

على عكس الفاتيكان، الذي يمتلك قيادة مركزية، فإن الكنائس الأرثوذكسية هي منظومة كنائس مستقلة ذاتيًا (Autocephalous)، من بينها:    
بطريركية موسكو (أكبرها وأقواها عددًا ( ونفوذًا )
بطريركية أنطاكية
بطريركية القدس
بطريركية الإسكندرية
بطريركية القسطنطينية (الفنار)—الأقدم تاريخيًا و«الأكثر رمزية» وبالرغم من استقلالها، فإن الكنيسة الروسية تحديدًا تحوّلت إلى ذراع للسياسة الروسية، خصوصًا في عهد بوتين.

2. كيف تستخدم روسيا الكنيسة الأرثوذكسية؟

تستخدم موسكو الكنيسة لعدة أهداف: تعزيز الهوية الروسية السلافية ، تبرير نفوذها في أوروبا الشرقية ، 
التأثير على الكنائس في أوكرانيا، البلقان، وسورية ، تقديم نفسها كـ«حامية المسيحية الشرقية»
ولهذا، كان أحد أسباب الغزو الروسي لأوكرانيا هو دعم الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لموسكو هناك، والإيحاء بأن كييف وموسكو «أمة روحية واحدة».

3. لماذا يهم أمريكا هذا الملف؟

لأن: الكنيسة الروسية باتت لاعبًا سياسيًا ودعائيًا يُنافِس الغرب. واشنطن تريد تقوية بطريركية
القسطنطينية (الفنار) في إسطنبول باعتبارها المضاد التاريخي لموسكو. دعم البابا لزيارة تركيا يفتح بابًا لإعادة هندسة النفوذ الأرثوذكسي في الشرق.

ثالثًا: تركيا بين الكنائس… ثروة عقارية وسياسيە 


1. الكنائس في تركيا… من إمبراطوريات إلى ملفات أملاك  تاريخيًا، كانت تركيا (الأناضول والقسطنطينية) قلب المسيحية الشرقية. لكن بعد العصر العثماني والجمهورية، تحوّلت الكنائس إلى: مبانٍ تاريخية
ثروات عقارية ، أملاك أوقاف ضخمة ، ورقة سياسية بيد الدولة ، بعض هذه الكنائس أُغلق، وبعضها صودر، وبعضها فُتح للسياحة فقط.
لذلك ظلّ موضوع «إدارة الكنائس» ملفًا حساسًا بين تركيا واليونان وروسيا والغرب.

2. لماذا لم تنشئ تركيا «فاتيكان أرثوذكسيًا» في إسطنبول؟

بالرغم من وجود بطريركية القسطنطينية في الفنار، لم تسمح تركيا لها بأن تصبح: ( مركزًا عالميًا ، دولة دينية مصغرة ، أو قيادة جامعة لكل الكنائس الأرثوذكسية

والسبب مركزي: روسيا.

أن يتحول الفنار إلى مركز قيادة أرثوذكسي يعني:
خسارة موسكو للزعامة الروحية على ملايين الأرثوذكس و تقوية نفوذ إسطنبول المدعومة غربيًا
ضرب مشروع بوتين «روسيا كحامية المسيحية»
تركيا لا تريد صدامًا مفتوحًا مع روسيا، لذلك حافظت على الوضع القائم بحذر شديد

رابعًا: القدّاس المرتقب في نيقية 2025… لماذا هو حدث عالمي؟

1. مجمع نيقية… ولادة العقيدة المسيحية

انعقد مجمع نيقية عام 325م بدعوة من الإمبراطور قسطنطين، وهو الحدث الذي:
•  صاغ «قانون الإيمان»
•  نظّم عقيدة المسيحية الرسمية
•  ثبت لاهوت المسيح
•  وضع الأسس العقائدية للمسيحية حتى اليوم ، 
لذلك، الذكرى الـ1700 لهذا الحدث ليست مجرد مناسبة دينية، بل مناسبة تعيد تشكيل الهوية المسيحية عالميًا.

2. لماذا تريد تركيا احتضان القدّاس؟

لأنها تريد: تثبيت مكانتها كمركز روحي عالمي ،  جذب المسيحيين والحجاج والسياحة الدينية ،   تحسين علاقتها مع الغرب ، استخدام الحدث لفتح قنوات سياسية جديدة

3. لماذا تريد أمريكا مشاركة البابا؟

لجعل القدّاس مناسبة:
لتحييد النفوذ الروسي في العالم الأرثوذكسي وتقديم القسطنطينية كمرجعية روحية مضادة لموسكو
وتشجيع توحيد جزئي بين الكنائس الشرقية تحت رعاية غربية/تركية

خامسًا: الطرافة في الزيارة… وجه آخر للدبلوماسية الروحية

بحسب مصادر عديدة، شهدت زيارة البابا المرتقبة وبعض اللقاءات التحضيرية مواقف طريفة—وإن كانت خلفها رسائل سياسية—منها: مفاجأة الوفد التركي حين علموا أن الفريق الفاتيكاني طلب زيارة بعض الكنائس المغلقة منذ 100 سنة. محاولة بطريركية الفنار إقناع الإعلام بأن الزيارة «روحية فقط».  ردّ ساخر من دبلوماسي روسي: «أمريكا تحاول أن تصبح أرثوذكسية أكثر من الأرثوذكس».

القدّاس المزمع إقامته في نيقية عام 2025 ليس حدثًا دينيًا فحسب، بل محطة مفصلية في صراع النفوذ بين: روسيا التي تستخدم الكنيسة كقوة ناعمة خارج حدودها و تركيا التي تحاول استعادة دور مركز المسيحية الشرقية و الولايات المتحدة التي تريد الحد من النفوذ الروسي والكنائس الأرثوذكسية التي تبحث عن وحدة شكلية بعد قرون من الانقسام
إن إحياء ذكرى المجمع المسكوني الأول بعد 1700 عام جعل من نيقية مرة أخرى … ميدانًا للصراع بين الإمبراطوريات.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket