خارطة الطريق نحو استراتيجية للطاقة

الآراء 01:18 PM - 2025-11-29
د. صلاح عزیز

د. صلاح عزیز

الحادثة ليست جديدة، لكن صدمتها تتجدد كل مرة. إنه المشهد المألوف لمدن غارقة في الظلام، ومواطنون يتساءلون عن أسباب انهيار حياتهم اليومية بضربة واحدة. إن انقطاع التيار الكهربائي عن الإقليم بنسبة 80٪، نتيجة استهداف مخازن غاز شركة دانا في كورمور، هو أكثر من مجرد أزمة خدماتية عابرة؛ إنه جرس إنذار صارخ يكشف عن هشاشة البنية التحتية وغياب استراتيجية واضحة لضمان "السيادة" و"الأمن" بمفهوميهما الشاملين: الطاقة والغذاء.
لقد كشفت هذه الحادثة، مثل سابقاتها، أن سيادة الإقليم لا تُفرض بالخطابات السياسية وحدها، بل بقدرته على توفير مقومات الحياة الأساسية لمواطنيه وحماية هذه المقومات من أي عدوان. كما كشفت أن أمنه ليس مجرد أمن عسكري، بل هو أمن طاقوي وغذائي يضمن استمرارية المجتمع وحماية مواطنيه من الأزمات.
يعيش إقليم كوردستان، بكل إمكاناته البشرية والطبيعية، حالة من التبعية الخطيرة في مجال الطاقة. إن الاعتماد على مصدر واحد لتوريد الغاز، وعدم امتلاك محطات الكهرباء لخزانات استراتيجية للغاز، هو إدارة للأزمة وليس استباقاً لها. هذا النموذج يجعل الإقليم رهينة لأي تهديد أمني بسيط، حيث أن استهداف نقطة واحدة يتسبب في شلل كامل للشبكة الكهربائية، متسبباً بخسائر فادحة.
تحوّلت المستشفيات والعيادات من مراكز للإنقاذ إلى أماكن محفوفة بالمخاطر لان انقطاع التيار يعطّل الأجهزة الطبية الحيوية، ويعرّض الأدوية والحفظات الباردة للفساد، ويُهدد حياة المرضى مباشرة. کذلک تتوقف المصانع والشركات، مما يؤدي إلى خسائر مادية يومية هائلة، ويهدد بفقدان الوظائف وتراجع النمو الاقتصادي. اخيرا ادى انقطاع الکهرباء الى حرمان أكثر من مليون وحدة سكنية، من أبسط مقومات العيش الكريم، ويعطل التعليم، والعمل، والراحة.
إن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا توجد محطات طاقة بديلة؟ ولماذا لا يتم تنويع مصادر إمدادات الغاز؟ الأهم من ذلك، لماذا لا يتم الاستثمار في الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) كرافد استراتيجي يقلل من هذه التبعية ويوفر مصدراً محلياً آمناً؟
إذا كانت أزمة الطاقة مرئية وملموسة في الظلام، فإن أزمة الأمن الغذائي كامنة وقادرة على تفجير المجتمع من داخله. الأحداث الأخيرة تطرح سؤالاً مصيرياً: ماذا لو تعرضت سلاسل توريد الغذاء للإقليم لتهديد مماثل؟ هل لدى الحكومة مخزون استراتيجي من القمح والحبوب والمواد الغذائية الأساسية يكفي لشهور؟
الاستراتيجية الفاعلة تتطلب بناء مخزون استراتيجي آمن، وتشجيع الزراعة المحلية عبر دعم المزارعين وتطوير تقنيات الري، وتنويع مصادر الاستيراد. يجب أن تكون هناك خطة طوارئ تضمن توفير الغذاء للسكان لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر في وجه أي أزمة محتملة، سواء كانت أمنية أو اقتصادية أو حتى طبيعية.
لقد أصبحت بيانات الاستنكار الحكومية في اقليم کوردستان المتكررة بعد كل حادث غير مقنعة للمواطن الذي يدفع ثمن هذا التردد. لقد حان الوقت لتحويل الخطاب من ردود الفعل إلى فعل استباقي. نحتاج إلى:
1. تأسيس مجلس أعلى للسيادة والأمن القومي: مهمته وضع وتنفيذ استراتيجية متكاملة للأمن الطاقوي والغذائي، برئاسة شخصية سياسية ذات صلاحيات تنفيذية واسعة.
2. تنويع مصادر الطاقة وتعزيز البنية التحتية: الاستثمار في خزانات الغاز الاستراتيجية لمحطات الكهرباء، وتنويع موردي الغاز، والإسراع في بناء محطات للطاقة المتجددة، وتأهيل الشبكة الكهربائية.
3. بناء المخزون الاستراتيجي: إنشاء هيئة مستقلة لإدارة المخزون الاستراتيجي من المواد الأساسية كالوقود والقمح والأدوية، مع تأمين مواقع تخزينها.
4. تعزيز الأمن والردع: تطوير قدرات المراقبة والدفاع الجوي حول المنشآت الحيوية والاستراتيجية، ووضع خطط واضحة للرد على أي اعتداء يحاكَم بموجبها المعتدي.
السيادة ليست شعاراً نرفعه، بل هي قدرة نصنعها. والأمن ليس حصناً نتحصن فيه، بل هو مناعة نبنيه من الداخل. أزمة انقطاع الكهرباء هي عرض لمرض أعمق: غياب الإرادة الاستراتيجية. إن استمرار الحياة الطبيعية لسبعة ملايين نسمة في إقليم كوردستان لا يمكن أن يبقى رهناً بصاروخ طائرة مسيرة أو خط أنابيب واحد. آن الأوان لتحويل الدرس المؤلم إلى استراتيجية، تضمن للإقليم سيادته الحقيقية، وللمواطن أمنه الشامل لذلک.المسؤولية التاريخية اليوم تدعو الاقليم لتحويل هذا الظلام المؤقت إلى إضاءة دائمة، عبر خارطة طريق تبني إرادة استراتيجية واضحة تضمن للإقليم سيادته الحقيقية واستقرار مواطنيه.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket