يوم الشهيد… ذاكرة الدم والكرامة في تاريخ الاتحاد الوطني الكوردستاني واستذكار ملحمة “هەڵوی سوور”

الآراء 12:38 PM - 2025-11-21
عباس عبدالرزاق

عباس عبدالرزاق

في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من كل عام، يتوقف الزمن لحظةً في ذاكرة الاتحاد الوطني الكوردستاني. يومٌ لا يُقرأ بوصفه مجرّد مناسبة، بل كعودة واعية إلى تاريخٍ خطّته دماء الشهداء، وإلى سرديات المقاومة والمواجهة التي صاغت الوعي السياسي الكوردي المعاصر. “يوم الشهيد” في الاتحاد الوطني ليس عنواناً للاحتفال بذكرى رحيل الأبطال فحسب، بل هو تجديدٌ للعهد مع القيم التي حملوها: العدالة، الحرية، الإيمان الراسخ بقضية شعبٍ لم ينحنِ رغم كل محاولات التفكيك والقمع.


ضمن هذه الذاكرة الممتدة، تبرز سلسلة من الملاحم التي تشكل ركائز الهوية النضالية للحزب. ومن بين تلك المحطات، تلمع واقعة  هەڵوی سوور (  الصقر الاحمر  )التي ما زالت تثير العاطفة وتُلهِم الأجيال، لما حملته من بطولة نادرة، وإقدام استثنائي لمجموعة صغيرة من الشباب الذين حوّلوا قلب بغداد –وسط أعتى أجهزة القمع البعثية– إلى مساحة لفعلٍ مقاوم غير مسبوق.
هذه المقالة تعود إلى تلك السيرة، وتعيد تركيب المشهد من جديد، لتضع “يوم الشهيد” و“هەڵوی سوور” في سياقهما التاريخي والسياسي، وتقرأهما بعين الصحافة والتحليل، ووعي الإرث الذي لا يزال يقود الحاضر السياسي الكوردي حتى اليوم.


يوم الشهيد… 
ذاكرة حزب وضمير شعب


لم يولد يوم الشهيد صدفة، ولم يكن مجرّد اختيار رمزي في التقويم. إنّ 21 تشرين الثاني يحمل في طيّاته ذلك التاريخ الذي شهد إعدام قادة وشباب مناضلين، تمسّكوا بوجود الصوت الكوردي في الحياة السياسية العراقية، وفي وجه آلة قمعٍ لم تكن تعترف بأي اختلاف.


هذا اليوم تحوّل مع الزمن إلى حاضنة وجدانية تجمع أعضاء الحزب ومناصريه. فيه تُقرأ أسماء الشهداء واحداً واحداً، وتستعاد صورهم، وخطبهم، وأحلامهم، وتضحياتهم التي تحولت لاحقًا إلى جزء من ملامح مشروع سياسي كامل.
لم تكن ذكرى الشهداء بالنسبة للاتحاد الوطني الكوردستاني مجرد طقس حزبي، بل كانت وما تزال أداة للتأسيس السياسي، تمنح الشرعية الأخلاقية لتجربة قاومت التفرد، وتصدّت لسياسات التعريب والتهجير، ودافعت عن حقوق الشعب الكوردي في أصعب الظروف التاريخية.


وعلى امتداد عقود، أصبح يوم الشهيد فرصة لإعادة قراءة الماضي، وتقييم الحاضر، وصياغة المستقبل. فقد أدرك الحزب أنّ الذاكرة السياسية ليست تجميعاً للتضحيات، بل هي أساسٌ لصناعة القرار والحفاظ على وحدة المشروع الوطني الكوردي.




خلفية سياسية 
 ما بعد انهيار ثورة أيلول


جاءت ملحمة “هەڵوی سوور” في لحظة تاريخية عصيبة أعقبت انهيار ثورة أيلول بعد اتفاق الجزائر بين شاه إيران ونظام البعث سنة 1975. إثر ذلك الاتفاق، وجد الشباب الكورد أنفسهم في فراغٍ سياسي قاتم. اختنقت الحركة التحررية، وانقطعت خطوط الإمداد، وتبددت المساحات الآمنة، وتحوّلت المدن الكوردية إلى ساحة مطاردة وملاحقة.


في تلك الأجواء المشحونة بالخيبة والألم، تسرّبت إلى بغداد موجة من الشباب الكورد الحاملين قناعات راسخة بالعمل السري. أدركوا أن النضال لا يموت بانهيار جبهة، ولا ينطفئ بتوقيع اتفاقية دولية. هؤلاء الشباب كانوا يُدركون أنّ على الشعب الكوردي أن يستعيد زمام المبادرة من جديد، ولو بمجموعات صغيرة تعمل في الظل.


من هنا، ولد التنظيم السري المعروف لاحقاً باسم “هەڵوی سوور – الخلية الحمراء”، والذي ارتبط لاحقاً ضمن خط فكري وتنظيمي بالحركة الثورية الجديدة التي شكّلت نواة الاتحاد الوطني الكوردستاني.


التأسيس السري… «خوینی شەهید»


تبدأ القصة من بغداد. بعد اتفاق الجزائر وخنق ثورة أيلول، تجمع عددٌ من الشباب الكورد المتحمسين الذين كانوا يؤمنون أن العمل السري هو الطريق الوحيد للاستمرار. وبهذا التفكير، تأسس تنظيم باسم “خوینی شەهید – دم الشهيد”، وكانت مهمته الاستمرار في المقاومة بطريقة منظمة، ولو من قلب العاصمة التي أشرف عليها جهاز أمني شديد القسوة.


الشهداء ، سلمان حاجي داود، جمال محمد سعيد، عادل محمد کریم ، شیرۆ عبدالقادر كانوا ضمن تلك المجموعة الشبابية التي حملت على عاتقها مهمة إعادة الروح للوعي القومي في وقت يُعدّ من أشد مراحل القمع السياسي.


ولم يكن تأسيس التنظيم مجرد مبادرة فردية؛ فقد تداخلت العلاقات بين هذه المجموعة وبين كوادر من كومەڵە، وكان من أبرزهم  الشهید سلام عبدالرزاق ماموستا جعفر (فاضل كريم) و عماد احمد الذي کان لهم دوراً محورياً في توجيه الشباب، وإعادة بناء الخلية بشكل أكثر إحكاماً وسرية.


رابعاً: نحو تأسيس “هەڵوی سوور”


مع استمرار الاجتماعات السرية بين الشباب وبين كوادر من كومەڵە، تولدت قناعة بضرورة توسيع النوع والصيغة التنظيمية. تم اقتراح تأسيس خلية أكثر تخصصاً في العمل السري والميداني، يمكن أن تعمل في بغداد نفسها، في ظل ظروف قمعية لا ينجو فيها أي نشاط سياسي من رقابة الأجهزة الأمنية.

هكذا وُلدت “هەڵوی سوور – الصقر  الحمراء” كتنظيم شبابي سري يعتمد على الجرأة والسرعة ونمط العمل الخفيف والسري للغاية. وكان هدفها الأبرز تنفيذ عمل نوعي يربك النظام، ويعيد الثقة للحركة الكوردية بأن المقاومة لا تزال مستمرة.


كان ملازم جۆامیر –الذي كان بيشمركة قبل أن يُرسل إلى بغداد– هو المسؤول الميداني عن الإشراف على “هەڵوی سوور”. أما المجموعة الأساسية فقد مثّلها:
سلمان حاجي داود، سلام عبدالرزاق (الشاعر والكاتب)، جمال محمد سعيد،  شیرۆ عبدالقادر  وعادل محمد کریم


هەڵوی سوور
 في الذاكرة السياسية الكوردية


ليست “هەڵوی سوور” مجرد عملية، وليست قصة شخصيات فقط. هي نموذج لمرحلة كاملة كان فيها الشباب الكوردي يصنع السياسة من قلب المحنة.
هذه الواقعة شكّلت لاحقاً إحدى اللبنات الفكرية والتنظيمية التي مهّدت لظهور الاتحاد الوطني الكوردستاني عام 1975، ولانطلاق خط سياسي جديد يعتمد على: التنظيم ، السرية ، الوعي ، الارتباط بفئات المجتمع  ،  واستعادة المبادرة بطرق مبتكرة


وقد ظلّت أسماء الشهداء في صدارة الاحتفاء بيوم الشهيد لدى الحزب، بوصفهم “نواة الوعي الثوري الحديث”.
إن استذكار شهداء “هەڵوی سوور” اليوم لا يهدف إلى تمجيد السلاح أو تقديس العنف، بل إلى فهم معنى الإيمان العميق بالقضية. هؤلاء الشباب لم يكونوا يبحثون عن شهرة ولا عن منصب؛ كانوا يبحثون عن وطنٍ حر، وعن صوتٍ كوردي لا يخضع للمنع.
أعادوا تعريف معنى البطولة، وتركوا درساً يقول إن الحركة الوطنية الكوردية لم تُهزم يوماً ما دامت تملك شباباً قادرين على تحويل اليأس إلى فعل.


يوم الشهيد ليس يوماً للدموع، بل يومٌ لإعادة وصل الماضي بالحاضر.
ويظلّ شهداء “هەڵوی سوور” مثالاً على أن الإرادة قادرة على تحدي أكثر الأنظمة بطشاً، وأن المقاومة الحقيقية تولد من رحم القمع.


إنّ 21 تشرين الثاني هو اليوم الذي يُذكّر الاتحاد الوطني الكوردستاني بأن جذوره تمتد في أرضٍ رواها الشباب بدمائهم، وبأن مشروع الحرية ليس شعاراً، بل سيرة أجيال دفعت ثمنه.


وكلما يعود هذا اليوم، يعود معه السؤال:
هل نحن اليوم أوفياء لتلك الملحمة التي صنعها هؤلاء الشباب؟
وهل ما زالت الحركة السياسية الكوردية تحمل ذلك القدر من الشجاعة والإيمان؟


أسئلة مفتوحة تبقى معلّقة في عمق الذاكرة… وتبقى بطولات “هەڵوی سوور” إحدى أكثر الإجابات إشراقاً في تاريخنا السياسي المعاصر.

PUKMEDIA 

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket