تشظّي الصوت الكردي بين الفلسفة السياسية وأزمات التمثيل

عباس عبدالرزاق

شهدت الانتخابات الأخيرة في العراق وإقليم كردستان حالة غير مسبوقة من التشظّي في الصوت الكردي، سواء داخل الإقليم أو في المناطق المتنازع عليها. هذه الحالة ليست حدثاً انتخابياً عابراً، بل تعبير عن تحولات عميقة في البنية السياسية والاجتماعية والفلسفية للهوية الكردية.
هذه المقالة تحاول قراءة الظاهرة عبر خمسة فصول مترابطة تجمع بين الفكر الفلسفي، التحليل السياسي، والبنية الانتخابية، لتصل إلى رؤية متكاملة لإعادة بناء الصوت الكردي كقوة فاعلة في معادلة الدولة العراقية.
الفصل الأول: الجذور الفلسفية لمفهوم الصوت الجماعي
1. الهوية كفعل سياسي لا كمعطى ثابت   تؤكد الفلسفة السياسية الحديثة – من روسو إلى تايلور – أن الهوية الجماعية ليست شيئاً ثابتاً، بل هي فعل دائم من إعادة التعريف.  الصوت الكردي هو انعكاس لعقد اجتماعي ضمني يقوم على:
•  الذاكرة المشتركة
•  الوعي بالذات القومية
•  تصور مشترك للمصلحة العليا
ومتى ضعفت أي من هذه المرتكزات، يتعرض العقد الاجتماعي للتآكل.

2. الإرادة الجمعية بين “الكل” و“الأجزاء”

في نظرية الإرادة العامة عند روسو، تتعرض الجماعة لخطر التفتت عندما تتحول الجماعات الصغيرة (الأحزاب، العشائر، الأقاليم) إلى قوى تنافس الإرادة العليا. وهذا ما حدث بالضبط للصوت الكردي، حيث تحوّلت الأجزاء إلى مراكز قرار مستقلة تفوقت أحياناً على “المشروع القومي”.

3. نقد التفكك من منظور فوكو وباومان

يرى فوكو أنّ السلطة حين تنقسم داخل الجماعة تولّد أفراداً مُذرّرين يسهل التحكم بهم. في حين يرى باومان أنّ الحداثة السائلة جعلت الهويات أقل صلابة وأكثر هشاشة، وهذا يظهر بوضوح في:  ضعف الانتماء السياسي المستدام  ، انتقال الناخب من حزب لآخر ،
التصويت وفق مصلحة آنيّة لا رؤية قومية

الفصل الثاني: الحزبية الصلبة وتحولها إلى بنية متنافسة

1. من مشروع التحرر إلى مشروع النفوذ  كانت الأحزاب الكردية تاريخياً تعبيراً عن مشروع قومي تحرري، لكن في العقدين الأخيرين تحوّلت إلى مراكز سلطة تتنافس داخل فضاء سياسي محدود، مما قاد إلى: تعزيز الانقسام البنيوي ، تحويل الخلافات من سياسية إلى وجودية  ،تآكل صورة “البيت الكردي” الموحد

2. الأزمة المؤسسية في الإقليم تسببت الخلافات في: تعطيل البرلمان لفترات  ،،وجود إدارتين سياسيتين بحكم الأمر الواقع  ، تنازع في الصلاحيات والموارد
غموض في مستقبل الشراكات الإستراتيجية  وهذا يتوافق مع رؤية هابرماس حول أزمة الشرعية حين تفقد المؤسسات قدرتها على التعبير عن المواطنين.

3. توسيع دائرة اللاعبين
ظهور أحزاب وقوى جديدة، بعضها ذات طابع محلي، بعضها ذات طابع احتجاجي، أدى إلى تفتيت الصوت الكردي أكثر، لكنه في الوقت نفسه كان بمثابة احتجاج ناعم على البنية الحزبية التقليدية.

الفصل الثالث: تشظّي الصوت الكردي في المناطق المتنازع عليها
1. جغرافيا الهشاشة السياسية   كركوك، خانقين، سنجار، مخمور، وسهل نينوى هي مناطق ذات حساسية عالية، حيث: التداخل القومي  ، التنافس العربي–الكردي–التركماني ، تعدد القوى العسكرية
تغيّر الإدارة السياسية . في هذه البيئات، يصبح الصوت الكردي أكثر عرضة للضغط، وأكثر قابلية للتشتت.

2. تفكك السردية القومية الكردية كانت سردية “العودة إلى كركوك” أو “الحقوق الدستورية في المناطق المتنازع عليها” تمثل نقطة إجماع. اليوم تحولت إلى: ملفات تكتيكية  ، أوراق مساومة ،  شعارات غير مدعومة بعمل سياسي منسق

3. تآكل الثقة الشعبية يشعر المواطن الكردي في هذه المناطق بأنه متروك بين تنازع الأحزاب، وأن قضيته لا تُدار وفق “رؤية قومية” بل ضمن مصالح حزبية واعتبارات بغداد.
وهذا يجسد فقدان ما يسميه دوركهايم بـ التضامن العضوي.

الفصل الرابع: النتائج السياسية الاستراتيجية للتشظّي
1. تراجع القوة التفاوضية الكردية في بغداد، تحوّلت القوى الكردية إلى كتل صغيرة متفرقة، مما جعل:
الموقف الكردي أقل تأثيراً ، الملفات الاستراتيجية أصعب تمريراً  ، التحالفات أقل استقراراً

2. صعود قوى غير كردية في “الأرض الكردية السياسية” نتيجة التشظّي، استطاعت: قوى عربية
قوى تركمانية ، قوى جديدة مدعومة محلياً . أن تحجز مواقع كانت تاريخياً كردية بالكامل.

3. إعادة إنتاج الأزمة الداخلية

بدلاً من استخلاص العبر من الانتخابات السابقة، أدى التشظّي إلى:  تعزيز الخطاب الانقسامي   ،    زيادة التشكيك بالمؤسسات  ،    تراجع حضور الكفاءات والقيادات المقبولة جماهيرياً

4. فقدان مشروع الدولة داخل الإقليم  من دون صوت موحّد، يبدو الإقليم: غير قادر على التفاوض
غير قادر على الإصلاح وغير قادر على تقديم نموذج مستقر لجمهوره وللعراق
الفصل الخامس: نحو مشروع فلسفي–سياسي لإعادة بناء الصوت الكردي

1. إعادة صياغة الهوية السياسية يجب الانتقال من الهوية الحزبية إلى هوية: مدنية  ، قومية ،    جامعة
تستند إلى “الوعي المشترك” لا إلى الولاء التنظيمي.
2. تأسيس “العقد السياسي الكردي الجديد   وهو إطار يستند إلى:
•  احترام التعدد
•  وحدة الصف في الملفات القومية
•  ضمان حقوق الأحزاب الصغيرة
•  تقوية المؤسسات فوق الحزبية
هذا العقد ليس إعلاناً بل بنية للحكم الرشيد.

3. تفعيل الأخلاق السياسية    يتطلب الأمر:
•  إصلاح القانون الانتخابي
•  شفافية كاملة
•  فصل النفوذ الأمني عن القرار السياسي
•  تعزيز الإعلام المهني

4. بناء سردية قومية جديدة تستند إلى: التاريخ
العدالة ، حقوق الإنسان ، مستقبل اقتصادي–اجتماعي مشترك ،   وهي السردية الوحيدة القادرة على إعادة توجيه الناخب نحو مشروع وحدوي يتجاوز الحدود الحزبية. إن تشظّي الصوت الكردي ليس مجرد مشكلة انتخابية، ولا يمكن اختزاله في خلاف حزبي أو سياقات ظرفية.إنه أزمة في:•  التصور الفلسفي للهوي
                           •  البنية السياسية
                           •  العقد الاجتماعي
                           •  المشروع القومي
                           •  الثقة بين المواطن والمؤسسة
المطلوب اليوم ليس تكرار شعارات “الوحدة” فقط، بل هندسة سياسية وفلسفية جديدة تعيد إنتاج الإرادة العامة الكردية بوصفها قوة عقلانية، لا مجرد تجمع أصوات متناثرة.
وعندما تُبنى هذه الإرادة على رؤية مشتركة ومؤسسات شرعية وتفاهمات استراتيجية صلبة، عندها فقط يمكن للصوت الكردي أن يعود قوة فاعلة في الإقليم وفي العراق وفي الإقليم الأوسع.

PUKMEDIA