google map الخرائط كأداة للسلطة والتمثيل الرمزي

عباس عبدالرزاق

من الجغرافيا إلى الجيو-رمزية

منذ بدايات التاريخ السياسي، لم تكن الخريطة مجرد أداة لتمثيل الأرض، بل كانت أداة لامتلاكها رمزيًا.
فمن يرسم الخريطة، يرسم في الوقت نفسه حدود الوعي والسلطة والهوية.
(الخرائط، عبر العصور، كانت تعبيرًا عن توازن القوى، أكثر مما كانت انعكاسًا للواقع الجغرافي.
ولهذا قال الجغرافي البريطاني J.B. Harley:
الخرائط هي وثائق للسلطة بقدر ما هي وثائق للمكان. )

في هذا الإطار، يمكن فهم خرائط Google الحديثة بوصفها النسخة الرقمية الجديدة للخرائط الإمبراطورية القديمة: أدوات لتحديد من يُرى، ومن يُمحى، ومن يُعترف به على سطح العالم الافتراضي.

2. الخريطة بوصفها خطابًا سياسيًا

كل خريطة — سواء ورقية أو رقمية — هي شكل من الخطاب السياسي.
فهي لا تكتفي بتوصيف الواقع، بل تُعيد إنتاجه بصريًا، وتمنحه شرعية وجودية.
عندما تظهر “كوردستان” على خريطة Google، لا يعني ذلك أن الشركة تعترف رسميًا بالإقليم كدولة، لكنّها في الوقت نفسه تشرعن وجوده بصريًا أمام ملايين المستخدمين.

( في علم الجغرافيا السياسية، يُعرف هذا المفهوم باسم:
‏Cartographic Legitimacy      أي: الشرعية الخريطية — وهي قدرة التمثيل الجغرافي على منح كيان ما موقعًا رمزيًا في العالم.
إنّ مجرد ظهور اسم “Kurdistan Region” على الخريطة هو انتقال من الهامش إلى المركز، من “المناطق غير المرسومة” إلى المشهد العالمي المرسوم — وهو ما يعادل، من منظور القوة الرمزية، شكلًا من أشكال الوجود السياسي.)

3. الخرائط كأدوات سلطة ناعمة (Soft Power)

في عصر الرقمنة، أصبحت الخرائط أدوات من أدوات القوة الناعمة للدول والشركات الكبرى.
فالدول تستخدمها لإبراز نطاق نفوذها. والشركات — مثل Google — تستخدمها لإنتاج رؤية عالمية “موحدة” لكنها في الحقيقة تحمل تصوّرات سياسية مشفّرة
بهذا المعنى، تتحول الخريطة إلى نصّ أيديولوجي صامت: يحدّد من يملك الأرض، ومن يحق له الظهور،
ومن يُدفَع إلى العتمة الرقمية.

ومثلما كانت الخرائط القديمة ترسم “إمبراطوريات”، فإن الخرائط الرقمية ترسم اليوم “إمبراطوريات بيانات”.

4. حالة كوردستان: من الغياب إلى الظهور

إقليم كوردستان عاش طويلًا على هامش الخرائط الرسمية، إذ كانت الخرائط الدولية تضع مدنه داخل الحدود العراقية دون تمييز أو تسمية.
لكن ظهور الإقليم الآن في خرائط Google يعني أن الفضاء الرقمي بدأ يعيد توازن الظهور لصالح الكيانات المهمّشة تاريخيًا.

هذا الظهور ليس بسيطًا؛ فهو يُعيد تعريف مفاهيم مثل: 
الحدود → لم تعد فقط سياسية، بل رقمية ومعرفية.
السيادة → لم تعد محصورة في الأرض، بل تمتد إلى الوعي العالمي.
الاعتراف → لم يعد قانونيًا فقط، بل بصريًا وثقافيًا أيضًا.


5. البعد الفلسفي: الخريطة والوجود

من منظور فلسفي، يمكن القول إنّ الخريطة ليست تمثيلًا للعالم، بل هي طريقة لخلق العالم.
الوجود في العصر الرقمي لم يعد قائمًا على الحضور المادي فحسب، بل على الظهور على الشاشة.
فما لم يُرَ على Google Maps — كأنه غير موجود.
إذًا، حين يُرسم كيان مثل “كوردستان” على الخريطة الرقمية، فإنه يدخل حيز الوجود الرمزي للعالم.
وهنا نقترب من فكرة الفيلسوف الفرنسي Jean Baudrillard عن “الواقع المحاكى (Simulacrum)” — حيث يصبح التمثيل أقوى من الأصل، والصورة أكثر واقعية من الواقع نفسه.
بمعنى آخر: خريطة Google لا تصف كوردستان، بل تخلقها من جديد — كفكرة مرئية في الوعي الكوني.

6. خاتمة واستنتاج
إنّ الخرائط، في جوهرها، أدوات للهيمنة كما هي أدوات للمعرفة.
وفي العصر الرقمي، أصبحت كذلك أدوات للوجود ذاته.فظهور إقليم كوردستان في خرائط Google يمثل أكثر من تحديث تقني؛ إنه حدث رمزي–سياسي يعيد صياغة علاقة الكيان الكردي بالعالم. وبذلك تتحول الخريطة من أداة ملاحية إلى أداة وجودية، ومن منتج معرفي إلى موقع للسلطة الرمزية. إنّها ليست مجرد تمثيل للعالم، بل إحدى الوسائل التي يُعاد من خلالها رسم العالم وإعادة توزيع معانيه.
الخرائط كفضاء للاعتراف والوجود السياسي
يشكّل ظهور إقليم كوردستان في خرائط Google حدثًا يتجاوز البعد التقني ليصل إلى جوهر السياسة المعاصرة، حيث تتقاطع مفاهيم الجغرافيا، والسيادة، والتمثيل الرمزي في فضاء جديد هو الفضاء الرقمي.
لقد أظهر هذا التحوّل أن العالم لم يعد يُدار فقط عبر حدود مرسومة على الأرض، بل أيضًا عبر حدود رقمية ترسمها الشركات الكبرى والمنصات التكنولوجية، التي باتت فاعلًا جيوسياسيًا مؤثرًا لا يقلّ شأنًا عن الدول.

من خلال تحليل مفهوم الاعتراف الرقمي (Digital Recognition)، تبيّن أن الخريطة الرقمية أصبحت أداة لإنتاج الوجود السياسي أكثر مما هي وسيلة لتوثيقه. فحين يظهر كيان على شاشة الملايين، يُصبح موجودًا في الوعي العالمي حتى لو لم يكن معترفًا به رسميًا.
بهذا المعنى، يتحول “الظهور على الخريطة” إلى اعتراف رمزي–ثقافي سابق للاعتراف القانوني، وإلى خطوة أولى نحو إعادة توزيع الشرعية داخل النظام الدولي المعاصر.

أما من الناحية الإقليمية، فقد برز هذا الاعتراف الرقمي كعاملٍ مستفزّ ومقلق لدول الجوار، التي ما زالت تتعامل مع الخرائط كرموز للسيادة لا تقبل التأويل.
ذلك لأن مجرد تمثيل “كوردستان” ككيان متميز في الفضاء الرقمي يفتح الباب أمام إعادة تعريف الهويات والحدود في المنطقة، وهو ما تعتبره بعض الدول تهديدًا رمزيًا لثباتها الوطني.
إلا أن هذا “الاستفزاز الناعم” لا يُترجم بالضرورة إلى صراع مباشر، بل إلى جدل خفي بين الرؤية الرسمية والذاكرة الشعبية، بين ما تريد الدولة إخفاءه وما تصرّ التكنولوجيا على إظهاره.

ومن المنظور الفلسفي، يمكن القول إنّ الخرائط لم تعد مجرد انعكاس للعالم، بل أصبحت جزءًا من صناعته.
فكل ما يُرسم على الخريطة الرقمية يدخل حيّز الوجود الرمزي، وكل ما يُمحى منها يغيب عن الوعي الجمعي.
وبذلك، تتحوّل الخرائط إلى أداة للسلطة الرمزية بقدر ما هي أداة للتنقّل والمكان.
إنّها تعبّر عن من يمتلك الحق في الظهور، ومن يُحكم عليه بالبقاء في العتمة. 

خلاصة فكرية
إنّ إدراج “إقليم كوردستان” على خريطة Google هو لحظة فاصلة في العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة؛لحظة تُظهر كيف يمكن لخدمة رقمية أن تتحول إلى فاعل سياسي غير معلن، وكيف يمكن لفضاء إلكتروني أن يمنح هويةً مرئية لكيان ظلّ عقودًا بين الوجود والنفي. بهذا، تتجاوز المسألة حدود الجغرافيا لتصبح سؤالًا في الفلسفة السياسية للظهور والاعتراف:
هل يكفي أن تُرسم لتُوجد؟وهل يمكن للوجود الرقمي أن يسبق الوجود السياسي؟ ربما ستجيب السنوات القادمة، حين يتّضح أن الخريطة — في عصر Google لم تعد تصف العالم، بل تخلقه من جديد.

PUKMEDIA