شبح الاتجاه الواقعي في السياسة الدولية..

الآراء 07:29 PM - 2025-09-14
د. عدالت عبدالله

د. عدالت عبدالله

بالرغم من الانتقادات اللاذعة الموجهة للاتجاه الواقعي في السياسة الدولية (Realism in Politics)، واتهامه بتجاهل دور المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وتقليله من أهمية القيم والأفكار والأخلاق في السياسة، فضلاً عن ميله إلى تفسير السياسة دائماً بالصراع والقوة فقط متجاهلاً جوانب التعاون؛ إلا أن معظم الأحداث الدولية الحامية في السنوات الأخيرة وتطوراتها التراجيدية والمأساوية، التي هزّت ضمائر الإنسانية وتسببت في مقتل مئات الآلاف من المدنيين وتشريد الملايين، وانفجار صراعات جديدة في أكثر من منطقة في العالم، أثبتت بجدارة أنّ هذا الاتجاه ليس جزءاً من الماضي العتيق، ولا يقتصر على حقبة الحرب الباردة، ولا دليل أصلاً على أنّ النظريات السياسية قد تجاوزته، بل على العكس تماماً، ما زال يجسّد اتجاهاً قائماً وحاضراً في ذهنية وقناعة أغلب المتنفذين في السياسة الدولية، ويمثل تصوراً راسخاً لدى الكثير من الدول والرؤساء والزعماء السياسيين تجاه حقائق وحيثيات وتجارب هذا الحقل من النشاط الإنساني.

وكل من تابع إخفاق مؤسسات دولية كبرى مثل مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة، في السنوات الأخيرة، في الحد من الحروب والصراعات الدامية على الساحة الدولية، يدرك تماماً حضور هذا الاتجاه الطاغي حتى اليوم. ويكفي أن نشير إلى الحرب الروسية–الأوكرانية، ومجازر غزة، بل وحتى الحرب بين إيران وإسرائيل التي أوقفتها الدبلوماسية الأمريكية، وبالأخص الرئيس دونالد ترامب، لا الأمم المتحدة أو أي جهة دولية أخرى، لنفهم أن الواقعية ما زالت الإطار الغالب الذي يسير به العالم. وقد قاد هذا المنطق البشرية إلى دوامة جهنمية مستمرة منذ قرنين من الزمن، حتى بات الجميع لا يتوقعون للمستقبل شيئاً سوى حرب عالمية جديدة، أو المزيد من الحروب المناطقية في أرجاء مختلفة من العالم، دون أن تلوح في الأفق مؤشرات عكسية تبشر بخير أو تمنح الإنسانية شيئاً من الطمأنينة والأمان والسلام الدائم، كما دعا إليه الفيلسوف الألماني عمانويل كانط(1724-1804م) ، حين اعتبر أن السلام الدائم ليس حلماً طوباوياً، بل هدفاً عقلانياً يمكن بلوغه عبر قواعد سياسية وقانونية وأخلاقية.

هذا الاتجاه في السياسة، أي الاتجاه الواقعي، يعود بجذوره في الفلسفة السياسية إلى ميكافيللي (1469-1527م)  و توماس هوبز(1588-1679م)، اللذين أكدا أن الإنسان أناني بطبعه ويسعى وراء القوة والمصلحة. ثم شهد المفهوم تطوراً في القرن العشرين، ليتحوّل إلى اعتبار السياسة الدولية صراعاً دائماً على القوة، خصوصاً مع تنظيرات مفكرين المانيين مثل هانس مورغنثاو(1904-1980م). وهذا يعني أننا في النهاية أمام فلسفة سياسية حيّة تصمد بمرور الزمن، إذ تمتلك مقومات بنيوية متجذرة في الفعل البشري، ولا ترتبط بالعوامل الظرفية كي تتبخر في مرحلة تاريخية معينة وتنتهي.

وهذا، بحد ذاته، ومن جملة نتائجه الكارثية، يحفّز الدول والأمم على المزيد من سباقات التسلح والتجييش، وتخصيص الموازنات الضخمة لقطاع الدفاع، فضلاً عن تطوير الأسلحة الذكية والنوعية التي باتت من العوامل الحاسمة في الحروب والصراعات، وبقدر ما تمثل هذه الأسلحة رادعاً، فهي في الوقت نفسه مشجّعة على المضي في سياسات التوسع والاستعمار والاحتلال بأساليب معاصرة لدى العديد من القوى العظمى المتحكمة بمصير البشرية.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket