العنف الذي وحّد السوريين

الآراء 03:38 PM - 2025-08-15
علي شمدين

علي شمدين

لقد أتقن نظام البعث البائد، ولأكثر من نصف قرن من حكمه الأسود، سياسية الترهيب والترغيب في ضبط المكونات السورية في الداخل، ونجح في إدارة الخلافات فيما بينها بمهارة ودقة، وعمل بشكل مبرمج على تمزيق نسيجها بحيث لم تسلم حتى العائلة الواحدة من المجتمع السوري إلّا وطالتها تلك السياسة الخبيثة لتزرع بين صفوفها الفتن والخلافات.
ففي الوقت الذي أمعن هذا النظام الاستبدادي في ممارسة الترهيب بحق الشعب الكردي وحاول قمعه بكل الوسائل المتوفرة بين يديه، وتأليب المكونات الأخرى ضده، واعتبره جسماً غريباً لا بد من اقتلاعه من جذوره وإنهاء وجوده القومي، وسخر كافة قنواته السياسية والإعلامية والثقافية من أجل تشويه صورته القومية وتقزيم دوره الوطني وإقصائه تماماً. في هذا الوقت بالذات كان هذا النظام الشوفيني يسعى إلى إستقطاب المكونات الأخرى حوله بالترغيب والتظاهر بحمايتهم من خطر هذا (البعبع الإنفصالي)، الذي يسعى إلى (اقتطاع أجزاء من سوريا)، و(إقامة إسرائيل الثانية).. إلى آخر هذه الاتهامات التحريضية والأضاليل المفبركة.
ولهذا، هلل الشعب السوري عموماً، والكردي منه بشكل خاص، بفرار هذا النظام الدموي المغرور الذي لم يترك الحكم إلّا بعد أن دمر البلاد وأهلك العباد، فاستبشر السوريون خيراً بخلاصهم من هذا النظام الديكتاتوري الذي جثم على صدورهم كل هذه العقود الطويلة من القمع والقهر والاستبداد، ولم ينتبهوا إلى هوية البديل الذي وصل في غفلة منهم إلى دمشق على ظهر دراجات نارية في ترتيب خارجي مسبق من خلف الكواليس، واستسلموا للأمر الواقع وهم يقولون في أنفسهم: ليكن البديل من يكون. فإنه يكفيهم أنهم شهدوا بأعينهم نهاية هذا الطغيان، خاصة وأن الإدارة الجديدة بقيادة رئيسها المؤقت (أحمد الشرع)، قد سارعت إلى تغيير شكلها، وأطلقت شعارات تطالب بحماية السلم الأهلي ونبذ روح الانتقام ورفض الإقصاء، وتطالب بتشكيل حكومة مدنية تمثل الجميع، وصياغة دستور جديد يضمن حقوق جميع المكونات القومية والدينية، الأمر الذي طمأن المواطنين الذين أنهكتهم هذه الحرب الكارثية المدمرة.
لا شك أن انبهار السوريين بسقوط نظام البعث وتنفسهم الصعداء بفرار بشار الأسد بذلك الشكل الدراماتيكي المشين، قد أشغلهم عن البحث في هوية البديل والتدقيق فيها، الأمر الذي وفرّ لهيئة تحرير الشام المحكومة بلائحة الإرهاب فرصة ذهبية لم تكن تحلم بها قط، إلى جانب الفرص الذهبية الأخرى التي وفرها لها المجتمع الدولي والإقليمي والعربي والتي فتحت أمامها أبواب العالم الخارجي على مصراعيها بشرط أن تلتزم ببناء الدولة السورية الجديدة التي تشارك في بنائها المكونات الوطنية بمختلف انتماءاتها وتصان في دستورها الجديد حقوق جميع هذه المكونات وخاصة المكون الكردي الذي يشكل ثاني أكبر مكون قومي في البلاد، وأمام هذه الفرص السخية لم يكن أمام الإدارة الجديدة إلّا أن تسارع في خطواتها نحو تنفيذ وعودها على أرض الواقع، وتعمل بكل جدية على بناء جسور الثقة مع جميع المكونات الوطنية التي تشكل النسيج الوطني الحقيقي، وتبادر إلى لم شملها تحت مظلتها، وتدعوا إلى عقد مؤتمر وطني شامل من دون إقصاء أحد، وتصيغ دستوراً عصرياً يؤسس لنظام ديمقراطي لامركزي يضمن حقوق جميع المكونات وخاصة المكون الكردي الذي عانى في عهد البعث البائد كل أشكال الحرمان والصهر والإقصاء.
وبدلاً من أن تبادر هذه الإدارة المؤقتة الجديدة، إلى استغلال الوقت لصالح ترسيخ أركانها على أسس وطنية صحيحة، والاستفادة من هذا الدعم الخارجي المنقطع النظير في بناء الدولة المدنية المنشودة، والتفرغ للداخل السوري لترميم الجراحات العميقة التي خلفها النظام البائد في جسد الشعب السوري بمختلف انتماءاته، والوفاء بوعودها المخدرة التي أطلقتها وهي في طريقها إلى القصر الجمهوري في دمشق، والانفتاح على كافة المكونات والدخول معها في حوار وطني جاد ومسؤول وإشراكها فعلياً في العملية السياسية بعيداً عن أساليب القمع والقتل والترهيب، بدلاً من هذا كلّه وقعت هذه الإدارة المؤقتة وإنطلاقاً من خلفيتها السلفية الجهادية في مصيدة الغرور والتفرد في اتخاذ القرارات المصيرية التي مركزت جميع مفاصل السلطة في يد رئيسها المؤقت (أحمد الشرع)، الذي تم اختياره من قبل مجموعة من الفصائل الجهادية التابعة له في مؤتمر خاص بها، والذي اختار هو الآخر الإدارة المؤقتة بنفسه من لون واحد وعقيدة واحدة، وقام بصياغة الإعلان الدستوري بنفس الطريقة، وغيرها من القرارات الفردية التي احتكرت بيده قيادة الدولة والمجتمع.
هذا وقد تسلحت الإدارة المؤقتة الجديدة بعقلية التخوين والتكفير في مواجهة كل من يختلف مع عقيدتها الأصولية المتشددة، وصارت تلعب مع الخارج لعبة الترغيب والمساومة معه حتى على القضايا التي تلامس السيادة الوطنية، وتحصنت بهذا الدعم الخارجي واتخذته غطاءً لممارسة سياسة الترهيب بشكل علني بحق المكونات في الداخل السوري، وقطعت معها، واحدة تلو الأخرى، كل قنوات الثقة والعمل المشترك، فبدأت حملتها ضد المكون العلوي في الساحل السوري بتهمة أنهم من (فلول النظام البائد)، وضد المكون الدرزي بتهمة (الاستقواء بإسرائيل)، وضد المكون الكردي بتهمة (الدعوة إلى التقسيم والإنفصال)، وضد المكون المسيحي بتهم تكفيرية تحريضية مختلفة، وحتى أن المكون السني هو الآخر ومن خلال بوابة (الفزعات العشائرية)، لم يسلم من اتهامات هذه الإدارة المؤقتة التي لم تتوان عن استخدام أقسى أشكال العنف والترهيب بحق كل من لا يتطابق انتماؤه مع معاييرها الجهادية ومعتقداتها السلفية المتشددة، فتجاوزت بذلك النظام السابق الذي كان يعتمد سياسة الترغيب حيناً والترهيب حيناً آخر للتفريق بين مكونات الشعب السوري وتشتيت صفوفها، ولكن ربّ ضارة نافعة، فإن الإدارة المؤقتة الجديدة بعنفها الشامل لجميع المكونات، قد تسببت في تكاتفها ولم شملها ووحدة صفوفها.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket