العقل الجمعي واللاوعي السياسي: على خطى خرافة "خراف بانورغ"

الآراء 06:36 PM - 2025-08-12
* د. طارق جوهر سارممي

* د. طارق جوهر سارممي

(السياسة ليست قدراً، والطاعة ليست فضيلة. إن المجتمعات القوية هي التي تُربّي أبناءها على أن يكونوا ناقدين، متسائلين، ومؤمنين بالمسؤولية الفردية، لا أن يكونوا أفراداً مطيعين، خانعين، وصُمّ الآذان).
في زمن الأزمات السياسية، يكون المجتمع من حيث العاطفة، وليس العقل، أكثر استعداداً لأن يُقاد. ولنا في الرواية الساخرة "غارغانتوا وبانتاكرويل" للكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه من القرن السادس عشر"، صورة رمزية غاية في الدلالة.
(هل نعيش حقاً في مجتمع حرّ، حيّ وديمقراطي؟ أم أننا كما في قصة "الخراف" نسير إلى البحر؟ حينما يتحول المجتمع إلى مدينة من الصمّ المطيعين، يكون دور النخب السياسية والدينية والإعلامية والمثقفة أن تُمسك بأيدي الناس وتفتح أعينهم، لا أن تقودهم طائعين نحو الغرق).
في الرواية، شخصية تُدعى "بانورغ" تركب سفينة مع تاجر خراف اسمه "دوندون"، فيقع بينهما شجار. يخطط بانورغ بدهاء للانتقام، فيشتري من دوندون أجمل خرافه ثم يرميها في البحر أمام ناظر دندون حين تقفز الخرافة الأولى إلى الماء، تتبعها باقي الخراف، واحدة تلو الأخرى، حتى يغرق الجميع، بما فيهم التاجر نفسه.
قد يبدو هذا مشهداً أدبياً ساخراً، لكنه في الواقع يحمل دلالة عميقة تعكس سلوك الإنسان في الحياة السياسية والاجتماعية: الطاعة الصمّاء، السلوك القطيعي، وغياب العقلية الناقدة  وهذه هي الفكرة المركزية لمقالنا.
المفكر الفرنسي غوستاف لوبون تناول هذا الموضوع بعمق في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، حيث يرى أن الفرد حينما يدخل في زحمة الحشود، يفقد وعيه كمن يخضع للتنويم المغناطيسي، ويصبح تابعاً للشعارات والصور اللامعة التي يرفعها الزعيم.
هل للجماهير تفكيره الخاص؟
يعتقد لوبون أن الجماهير لا تفكر، بل تشعر، وتُقاد من قبل من يعرف كيف يخاطب عواطفها. الأمر ليس مسألة ذكاء أو جهل، بل  هي حالة نفسية إجتماعية تؤدي إلى تعطيل العقل وتعظيم الغريزة وقبول أي تصرف مادام في إطار "إجماع المجموعة".
هذا السلوك الجمعي  سلوك تأريخي يعود بقوة في أوقات الأزمات. ويمكن رؤية آثاره  بقوة في المشهد السياسي في العراق وإقليم كردستان، حيث تطغى اللغة العاطفية والشعاراتية على الخطاب العقلاني. فكثيراً ما ينتخب الناس من لا يخدمهم، ويهتفون لمن خذلهم، خوفاً من الحزب، أو بسبب الامتيازات والمذهبية والتخويف.

الاستعداد للطاعة دون سؤال
في أوضاع سياسية واجتماعية شبيهة بما هو قائم في العراق وكردستان، يظهر سلوك "خراف بانورغ" بوضوح  ، كلمة واحدة من زعيم سياسي أو ديني كافية لتغيير قناعات الناس بين ليلة وضحاها.حتى داخل الأحزاب، يمتنع كثير من المسؤولين عن التعبير عن رأيهم الحقيقي خوفاً من غضب القادة الكبار أو فقدان المناصب. وفي صفوف بعض الإعلاميين والمثقفين، كثيرون يصمتون أو يجاملون بدلاً من إعلان موقفهم الصادق. لا أحد يجرؤ على الخروج من الخطّ العام خوفاً من الإقصاء.
في المشهد السياسي، الاجتماعات الحزبية، البرامج الإعلامية، وحتى داخل البرلمان وفي مجالس الدواوين العشائرية كثيراً ما نرى أشخاصاً بلا موقف أو رأي، بل مجرّد صدى لتعليمات القادة. يبدون كأنهم ينتظرون "الخروف الأول" ليقفز حتى يلحقوا به إلى الغرق.

لماذا يتحول المجتمع إلى قطيع؟
تحوّل سلوك الناس إلى سلوك قطيعي لا يحدث بلا سبب، بل له جذور عديدة منها:
غياب التربية الصحية على التفكير الحرّ والمستقل.
انتشار الخطاب الشعبوي والديماغوجي عبر وسائل التواصل.
تحوّل السياسة إلى طقوس ولاء عاطفي  أو مصلحي لا علاقة لها بالعقل
حين لا يسأل المواطن نفسه: ماذا يقول هذا السياسي؟ ولماذا؟ وكيف يجب أن يكون؟ فإنه لا يُمارس حقه في التفكير. كما قال لوبون: الفرد حين يدخل في "قدسية الجماعة"، يفقد عقله ويقع تحت تأثير العاطفة الجماعية.

خراف السياسة أم ضحاياها؟
المؤلم أن أدوات التحليل والنقد أصبحت في يد من يُتقنون صناعة الصورة والتلاعب بالمشاعر، خاصة خلال الانتخابات:
كثير من الزعماء في العراق والمنطقة  يستخدمون الخوف، الهوية، والقداسة لضبط إرادة الأفرادخصوصا في أوقات الإنتخابات .
باسم  حماية "المصلحة العليا"  أو الإستقرار يُمنع الأفراد من طرح الأسئلة أو التعبير عن الرأي المخالف.
من ينتقد يُتهم بالخيانة أو الانتماء للخصم.
كل هذا يدعونا للتساؤل مجدداً: هل نعيش في مجتمع حرّ وواعٍ؟ أم أننا، كما في قصة الخراف، نسير جميعاً إلى الغرق؟ هل نخبنا تقود المجتمع بوعي ومسؤولية؟ أم أنها تحوّلت إلى أدوات لإسكات الناس بدلاً من توعيتهم؟

لا أحد مضطر أن يقفز إلى البحر
كما نعلم، لم ينجُ أي خروف في قصة بانورغ، بل غرق الجميع بمن فيهم التاجر. لكن لو أن خروفاً واحداً توقّف وسأل: "إلى أين نذهب؟"، لكانت النهاية مختلفة. لهذا أصبحت عبارة "خراف بانورغ" مرادفاً في اللغة الفرنسية لأي مجموعة تتبع غيرها دون وعي أو إرادة.
السياسة ليست  قدراً دائما، والطاعة ليست فضيلة. المجتمعات الحية تُربّي أبناءها على أن يكونوا ناقدين، مسؤولين، ومفكرين. في زمن الشعارات الفارغة والتكرار الممل، نحن بحاجة إلى طرح الأسئلة لا ترديد الشعارات، إلى مواطنين ذوي إرادة ورأي، لا قطيع يتبع من يصرخ أولاً.
في هذا العصر المليء برسائل التحشيد والشعبوية والمعلومات المضللة، علينا أن نُفرّق بين الحقيقة والكذب في خطابات الساسة وأتباعهم. وإلا سنغرق جميعاً، كما غرقت خراف بانورغ، في بحرٍ من التكرار، والانقياد، واللاوعي.

PUKMEDIA
* ترجمة وتحرير: نرمين عثمان محمد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket