هدايا الرئيس

الآراء 01:13 PM - 2025-08-05
محمد شيخ عثمان

محمد شيخ عثمان

في بلد مثخن بآثار العنف، يبدو أن إهداء صندوق عصير رمان وزيت زيتون أصبح أكثر إثارة للجدل من توزيع المسدسات والسيوف في مناسبات رسمية.
حادثة عابرة، لكنها كشفت ما هو أعمق: معركة بين ثقافتين، ثقافة العمل والإنتاج، وثقافة العنف والاستعراض.
الرئيس العراقي، من خلال مبادرة بسيطة ولكن ذات دلالة عميقة، قرر أن الهدايا الرسمية يجب أن تكون رمزاً لدعم الاقتصاد الوطني، لا أدوات تذكّر المواطنين بعقود السلاح والدمار.
وهذه المبادرة ليست مجرد صدفة بل هي نهج جديد ينبذ ثقافة العنف، ويروّج لفخر المنتج المحلي، بدءاً من مزارع حلبجة الشهيدة إلى موائد العراقيين.
إرث بحاجة إلى قطيعة
في الأعراف السياسية والاجتماعية العراقية، لطالما ارتبطت الهدايا الرمزية بتوزيع السيوف، والمسدسات المرصعة، وحتى البنادق الذهبية، وكأن السلطة بحاجة دائماً إلى تذكير نفسها ومحيطها بلغة القوة والردع.
هذا الإرث، الذي عايشناه في الولائم والمراسم والاحتفالات “الوطنية”، لم يكن سوى تعبير آخر عن ثقافة حكم ترى في السلاح امتداداً لهيبتها.
الرئيس اليوم يحاول قلب هذه المعادلة: الهدايا لم تعد مجرّد طقوس تكميلية، بل رسائل سياسية في جوهرها، فعصير الرمان الذي أنتجته حلبجة ليس منتجاً غذائياً فحسب، بل هو سردية عن عراق آخر؛ عراق العمل والزرع والاعتماد على الذات، بدلاً من عراق السلاح المستورد والعنف الموروث.
المؤسف أن بعض وسائل الإعلام ورواد مواقع التواصل، الذين يفترض بهم أن يكونوا شركاء في بناء الوعي العام، وجدوا في مقطع “امتعاض الهدية” مادة للسخرية الرخيصة، وانشغلوا بالتندر على نوعية العصير والزيت، بدلاً من أن يناقشوا الرسالة الحقيقية خلف هذا النهج الرئاسي الجديد.
كان الأجدر بهذه المنصات أن تناقش دلالات اختيار منتجات وطنية كرموز للهدايا الرسمية، وأن تضعها في سياق رؤية أوسع لتشجيع القطاعات الزراعية والصناعية المحلية، لا أن تختزل المشهد في “فيديو هابط” خالٍ من المسؤولية والمهنية.
ما أراد الرئيس قوله من خلال هذه الهدية يتلخص في فكرة بسيطة لكنها جوهرية: الهدايا ليست للزينة أو الاستعراض، بل لإعادة تعريف قيم الدولة نفسها،فبدلاً من مسدس محفور عليه اسم المُهدى إليه، هناك زجاجة عصير تمثل ثمرة جهد عراقي في أرض عراقية، تروي قصة مكان عاش مأساة الأسلحة الكيماوية لكنه ينبض بالحياة.
إنها محاولة لإعادة رسم رمزية الهدايا الرسمية بعيداً عن مظاهر القوة العمياء، باتجاه ثقافة الإنتاج والاعتماد على الذات، وربط المؤسسات العليا للدولة بمسؤولية أخلاقية ووطنية لدعم الاقتصاد المحلي.
الهدايا ليست مجرد تفصيل بروتوكولي، بل مرآة تعكس جوهر السلطة ومنظومتها القيمية.
وما فعله رئيس الجمهورية لم يكن مجرد اختيار لصندوق من العصير والزيت، بل رسالة سياسية متعمدة ضد “ثقافة السلاح القاتل”، ولصالح “ثقافة المنتج الوطني”.
مسؤولية وسائل الإعلام، والمجتمع ككل، أن تلتقط هذه الرسائل وتناقشها بوعي، لا أن تنحدر إلى مستوى المقاطع السطحية التي لا ترى في المشهد سوى عبوة عصير.
إنها لحظة اختبار لوسائل الإعلام والمجتمع معاً: هل نريد دولة تعيد تعريف رموزها بناءً على قيم العمل والإنتاج؟ أم نصرّ على البقاء أسرى لثقافة السلاح والعنف واراقة الدماء؟

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket