مام في الشام

الآراء 07:01 PM - 2023-11-18
علي شمدين

علي شمدين

(٤٣)

(لا يمكن مجابهة الفكر بالسلاح)

لقد كان مام جلال يلتقي خلال تواجده في الشام، بزعيم حزب العمال الكردستاني (عبد الله أوجلان)، الذي كانت تربطه به علاقات متبادلة من الصداقة والاحترام، ويجمعهما تنسيق مشترك في الكثير من المواقف والقضايا السياسية التي تهم الطرفين، وعلى أرضية هذه العلاقات التي كانت تجمعهما، بادر مام جلال وبالتعاون مع الصحفيين المعرفين (جنكيز جاندار، وكاميران قرداغي)، إلى التوسط بين عبد الله أوجلان والرئيس التركي تورغوت أوزال الذي كان قد استقبل مام جلال في القصر الجمهوري بتاريخ (١٤/٦/١٩٩١)، وعمل الجميع معاً من أجل التوصل إلى هدنة لوقف القتال بين الجانبين وفسح المجال أمام الجهود الخيرة للبحث عن حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، وفي الأخير تكللت تلك الجهود بإقناع أوجلان بالإعلان من طرف واحد عن هدنة لمدة شهر واحد، كانت هي الأولى من نوعها منذ أن اندلع الصراع الدامي بين الطرفين في عام (١٩٨٤).
وتصميماً منه على إنجاز هذه المبادرة التاريخية، عاد مام جلال إلى الشام يرافقه الإعلامي البارز (كاميران قرداغي)، أواسط آذار عام (١٩٩٣)، وبدأ بالتواصل مع عبد الله أوجلان بهدف الترتيب لهذه الهدنة وإخراجها إلى النور عبر الإعلان عنها في مؤتمر صحفي عقد في بلدة بر الياس اللبنانية بتاريخ (٢٠/٣/١٩٩٣)، بحضور حشد من الصحفيين والإعلامين، وفي مقدمتهم جنكيز جاندار (مستشار الرئيس التركي تورغوت أوزال)، وعصمت إمست (الذي انتدب من مستشار رئيس الحكومة سليمان دميريل)، وحاول مام جلال إقناع أوجلان بأهمية استثمار فرصة وجود رجل سياسي جريء مثل تورغوت أوزال على رأس السلطة في تركيا، يؤمن بعقم الأسلوب العسكري في حل القضية الكردية ويجنح بكل قناعة للحوار السلمي، وفي هذا المجال ينقل جنكيز جاندار في كتابه (قطار الرافدين السريع)، عن أوزال قوله: (الفكر هو الذي يغذي الإرهاب، ولنعترف بأن الذين يدعمون الإرهاب يخرجون من بين مواطنينا، وبأن القضية لا تُحل بدفع النقود، وإنما هناك دافع فكري، وهذا يعني أن هناك نضالاً فكرياً في جوهر القضية، ولا يمكنكم مجابهة الفكر بالسلاح، ولذلك أنتم مضطرون اليوم لمنح الأقليات القومية حقوقها..) . .
وفي إطار الاستعدادات اللازمة لإنجاح المؤتمر الصحفي الذي كان من المزمع أن يعقده عبد الله أوجلان في بر الياس بسهل البقاع اللبناني عشية احتفالات نوروز عام (١٩٩٣)، استقبل مام جلال بمنزله في الشام أوجلان، ومن ثم زاره مام جلال أيضاً في اليوم التالي في شقته برفقة كاميران قرداغي والملازم عمر وعبد الرزاق توفيق، وبدأ مام جلال يبحث مع أوجلان تفاصيل استعداداته لمؤتمره الصحفي، ولم ينس حتى التفاصيل الشكلية منها أيضاً، فبدأ مام جلال يسأله عن الملابس التي سوف يظهر بها أمام وسائل الإعلام، وعندما علم منه بأنه سوف يظهر بملابس المقاتلين الـ(كاكي)، اعترض مام جلال على ذلك، بحسب ما نقله كاميران قرداغي في مقال له بعنوان (حين أقنعت عبدالله أوجلان بارتداء ربطة عنق)، الذي نقل عن لسان مام جلال، قوله: (رفيق! يجب أن تكون ديبلوماسياً في حديثك ومظهرك مع الصحافة العالمية لأنك سوف تكون تحت الأضواء، وسوف تُنشر تصريحاتك وصورك في وسائل الإعلام العالمية، وسوف تضعها حتى على مكاتب رؤساء الدول لأهميتها، ولذلك أقترح أن ترتدي بدلة مدنية أنيقة..) ، ولم يكتف قرادغي بما اقترحه مام جلال على أوجلان، وإنما تدخل هو الآخر في الحديث قائلاً: (رفيق آپو يجب أن ترتدي ربطة عنق أيضاً) ، فوافق أوجلان على مقترحه على مضض بعد أن أيد مام جلال مقترحه أيضاً.
وقبل مغادرتهم شقة أوجلان، استأذن كاميران قرداغي من مام جلال إن كان ممكناً إجراء لقاءٍ صحفي مع عبد الله أوجلان لصالح جريدة (الحياة)، فوافق أوجلان على طلبه وصرح فيه عن عزمه الإعلان من جانبه عن هدنة مؤقتة لوقف إطلاق النار، وقام قرداغي بنشر هذا اللقاء في نفس يوم الإعلان عن تلك الهدنة، ويتحدث قرداغي عن هذا اللقاء بقوله: (كان حديثاً طويلاً قال أوجلان خلاله بأنه سيعلن بالفعل بعد أيام في بر الياس وقفاً لإطلاق النار بمناسبة حلول عيد نوروز، وتحدث أوجلان حينذاك طويلاً عن رؤيته للقضية الكردية داعياً إلى تحويل تركيا إلى دولة فيدرالية يتمتع فيها الكرد بإقليم فيدرالي، وتحدث أيضاً عن فكرته الأثيرة في إقامة الإدارات الذاتية الديموقراطية..) .
ونظراً لحساسية ملف حزب العمال الكردستاني وأهميته بالنسبة للحكومة السورية، فإن مام جلال كان يدرك جيداً بأن مثل هذه الجهود لا يمكنها أن تنجح من دون موافقتها أو تحييد موقفها تجاه هذه المبادرة المزمع الإعلان عنها بين زعيم حزب العمال الكردستاني والرئيس التركي تورغوت أوزال، ولذلك التقى مام جلال مع الرئيس السوري (حافظ الأسد)، قبل الإعلان عن هذه المبادرة رسمياً بأيام قليلة، من أجل وضعه في صورتها الحقيقية، وقد كانت لقاءاته مع الرئيس السوري تطول أحياناً لأكثر من ساعتين.
كما أن مام جلال كان يدرك أيضاً بأن انفتاح الرئيس التركي تورغوت أوزال على الملف الكردي في تركيا والعراق بهذه الجرأة التي كسرت المحرمات القومية للدولة التركية، سوف تثير ضده مراكز القوى القوميّة التقليدية (الدولة الخفيّة في تركيا)، لا بل ستهدد حياته بالخطر، ولهذا كان مام جلال حريصاً على إنجاح هذه المبادرة التي قام بإعدادها بالتعاون مع جنكيز جاندار الذي يقول في كتابه الجديد (مهمة تركيا المستحيلة: الحرب والسلام مع الكرد)، بأنه: (كان أوزال يسير وحيداً في حقل من الألغام، إذ لم يكن هناك أي شخص آخر غيره يمتلك المتطلبات الأساسية لدفع تسوية سلمية سياسية للمسألة الكردية.. وكان وقف إطلاق النار من جانب واحد الذي أعلنه أوجلان لمدة شهر واحد هدية ثمينة بالنسبة له لأخذ زمام المبادرة لحل الصراع الأكثر فتكاً وحضوراً في تركيا، وإن تم الحفاظ على وقف إطلاق النار واستخدامه لتمهيد الطريق لإنهاء الصراع وحل المشكلة، فسيتم تعزيز موقف أوزال في السياسة الداخلية..) .

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket