مام في الشام

الآراء 08:49 PM - 2023-11-04
علي شمدين

علي شمدين

(٤٢)
(كاسر المحرمات..)
في أعقاب التطورات الكارثية التي شهدتها العراق بعد الحرب التي خاضها صدام حسين مع إيران (١٩٨٠- ١٩٨٨)، واستخدامه الأسلحة المحرمة دولياً ضد الشعب الكردي في كردستان العراق وتنفيذه لحملات الأنفال المشؤومة عام (١٩٨٨)، واحتلال قواته الكويت عام (١٩٩٠)، والتدخل الدولي لإخراجه بالقوة، والانتفاضة العارمة التي شهدتها كردستان العراق، والتي انتهت بالهجرة المليونية عام (١٩٩١)، هذه التطورات هي التي فتحت الأبواب واسعة أمام عموم الشعب العراقي والكردي بشكل خاص للمطالبة باسقاط نظام صدام حسين الذي بات يشكل خطراً حقيقياً على العالم أجمع.
وفي هذا الاتجاه، أدرك مام جلال ببعد نظره الحاد بأن إسقاط هذا النظام الدموي لن يتحقق إلا بكسب المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الشعب الكردي في نضاله من أجل بناء نظام فيدرالي يضمن للكرد حقوقهم القومية، مرهون بمدى تقارب القيادة الكردية في كردستان العراق مع الحكومة التركية، على اعتبار أن أمريكا لا يمكنها أن تصطف مع الكرد من دون موافقة الجانب التركي الذي يجمعه والجانب الأمريكي تحالف عسكري مشترك في إطار حلف الناتو، كما أدرك مام جلال في الوقت نفسه بأن تقارب الحركة الكردية العراقية مع الجانب التركي يصطدم بالصراع الدموي الدائر بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني الذي يأخذ من جبال قنديل في كردستان العراق حصناً منيعاً له، الأمر الذي دفع بمام جلال إلى البحث عن كيفية فتح ثغرة في جدار المنع التركي والذي يحرم أيّة علاقة مباشرة مع القيادة الكردية في كردستان العراق.
لقد بحث مام جلال عن المفتاح الذي يفتح أمامه باب القصر الجمهوري في تركيا، وكان هذا المفتاح هو (جنكيز جاندار)، الذي كان مام جلال قد تعرف عليه في بيروت عام (١٩٧٣)، وهو ذلك المناضل التركي اليساري الذي كان قد فرّ إلى سوريا إثر الإنقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في (١٢/٣/١٩٧١)، والذي انضم فيما بعد إلى صفوف حركة التحربر الفلسطينية، وأصبح في (٦/٢/١٩٩١)، مستشاراً لرئيس الجمهورية التركية (تورغوت أوزال)، ليقوم بإقناعه بفتح ملف المسألة الكردية، والموافقة على اللقاء بمام جلال، واستقباله في القصر الجمهوري بتاريخ (١٤/٦/١٩٩١)، وفي هذا المجال يقول جاندار في كتابه (قطار الرافدين السريع..): (أنا أقمت أول ارتباط بين رئيس الجمهورية التركية تورغوت أوزال وجلال طالباني. وقد كسرت العلاقة بين تورغوت أوزال وجلال طالباني جليداً عمره ثمانية وستون عاماً من تاريخ الجمهورية التركية...) .
لقد تزامن وجود مام جلال في الشام أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات أيضاً مع وجود زعيم حزب العمال الكردستاني (عبد الله أوجلان)، الذي كانت تربطه معه علاقات قوية، فيعرض جاندار على رئيس الجمهورية التركية (تورغوت أوزال)، فكرة التواصل مع مام جلال بهدف الترتيب للقاء مع أوجلان، والتوسط من أجل البحث معاً عن حلّ لهذه القضية، إيماناً منه بأن تركيا لا يمكنها الانفتاح على الشرق الأوسط من دون معالجة القضية الكردية التي تعيش بين ظهرانيها، فيوافق أوزال على طرحه من دون تقديم أيّة وعود في هذا المجال، حيث يقول جاندار ما يلي: (أنا من عرض اللقاء مع أوجلان. حين بُحت لأوزال بنيتي هذه، لم يقل شيئاً سلبياً أو إيجابياً يمكن أن يُلْزمه، بل اكتفى بالقول: اذهب وعد ثم سنتكلم ونرى..) .
لا شك بأن أوزال كان يدرك خطورة الإقدام على مثل هذه المغامرة، والتي كانت بالنسبة له أقرب إلى الانتحار، فقد كانت تركيا متخوفة من تشكيل أيّ كيان كردي في كردستان العراق بعد انهيار النظام المركزي في بغداد، وانعكاس ذلك على الشعب الكوردي في تركيا، فهي قلقة دائماً من تحقيق الشعب الكردي لأيّ مكسب قومي  في العراق خوفاً من انتقال العدوى إلى الكورد في تركيا، ولكن مع ذلك تجرأ أوزال على أن يخطو هذه الخطوة التاريخية انطلاقاً من إيمانه بضرورة البحث عن حل للقضية الكردية في تركيا مهما كلفه الثمن، فينقل جاندار على لسانه ما يلي: (هذا دين شعبي الأخير عليّ.. وإن حلّ هذه القضية دين برقبتي بصفتي رئيساً للجمهورية.. ) .
وبهذه القناعة الراسخة بادر تورغوت أوزال إلى استقبال مام جلال في القصر الجمهوري في (١٤/٦/١٩٩١)، وهذه كانت هي المرّة الأولى في التاريخ الكردي التي يلتقي فيها رئيس تركي في القصر الجمهوري بزعيم كردي مثل مام جلال الذي وصف من جهته هذا اللقاء بالتاريخي وبأنه لا يُشبه أي لقاء آخر، ويقول وفقاً لما نقله عنه جاندار، بأنه: (لا يمكن لغير الكوردي أن يفهم مغزى لقاء رئيس الجمهورية التركية كوردياً بموقعي.. وهكذا كسر الرئيس أوزال أكبر المحرمات في تاريخ الجمهورية التركية، ولم يكن هذا ممكناً من دون وجود رئيس جمهورية كاسر للمحرمات مثله في القصر..) .

ومن ثم تلقى جنكيز جاندار بعد ذلك الضوء الأخضر من رئيس الجمهورية تورغوت أوزال بالتوجه إلى الشام للقاء مام جلال والعمل معاً من أجل إقناع الزعيم الكردي (عبد الله أوجلان)، بالإعلان عن هدنة لمدة شهر وذلك خلال مؤتمر صحفي عقد في بلدة بر الياس اللبنانية بتاريخ (٢٠/٣/١٩٩٣)، حضره حشد كبير من الصحفيين، وفي هذا الإطار يقول جنكيز جاندار: (أبلغت جلال طالباني قائد الاتحاد الوطني الكوردستاني العراقي بسفري، والذي كان مقيماً حينها في دمشق، ولعَب دوراً حاسماً بإعلان هذه الهدنة..) .

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket