مام في الشام

الآراء 07:22 PM - 2023-10-28
مام في الشام

مام في الشام

(٤١)
(مغامرة عبور دجلة )
علي شمدين
لا شك بأن قراءة مام جلال للتطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة والعراق عموماً وكردستان العراق بشكل خاص، ومتابعته الدقيقة لمجريات الانتفاضة الشاملة التي عمت كردستان وتحريرها من قوات صدام حسين، كانت وراء قراره العاجل بمغادرة الشام والعودة إلى كردستان العراق للمشاركة في الانتفاضة وقيادتها ميدانياً متسلحاً بقرارت مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية وترتيب صفوفها، وكذلك اختراقه الجريء لجدار المنع التركي والوصول مع الحكومة التركية إلى قواسم مشتركة من أجل إسقاط صدام حسين، كل ذلك شجع مام جلال على مغادرة الشام والاستعجال في العودة إلى كردستان لإدارة الأوضاع هناك بنفسه. 
انطلق مام جلال من الشام باتجاه القامشلي بتاريخ (٢١/٣/١٩٩١)، بهدف العبور من هناك إلى كردستان العراق بأسرع وقت، ولكنه تأخر في القامشلي لمدة ثلاثة أيام بلياليها وهو ينتظر توقف هطول الأمطار الغزيرة التي أدت إلى ارتفاع منسوب مياه نهر دجلة، والتي حالت دون عبوره والوفد المرافق له والذي ضم مجموعة من رفاقه (جبار فرمان، يوسف زوزاني، أحمد بامرني..) وعدد من الإعلاميين ومراسلي الصحف والمنظمات الإنسانية الدولية، لاستحالة العبور إلى الطرف الآخر بواسطة قوارب صغيرة كانت حينذاك هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة للعبور عبر معبر سيمالكا، فقد كان هذا المعبر يشكل حينذاك المنفذ الوحيد لمرورهم إلى كردستان العراق.
وخلال فترة تواجد مام جلال في مدينة القامشلي، شهد مكان إقامته في فندق (مدينة الشباب)، حشود جماهيرية جاءت للترحيب به والتعبير عن تضامنها مع الانتفاضة الشاملة التي اندلعت في كردستان العراق، وتوافدت إلى هناك وفود سياسية وثقافية وجماهيرية لزيارته واللقاء به، وقد تولى رفاق الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا تنظيم تلك الوفود بالتنسيق مع مكتب القامشلي للاتحاد الوطني الكردستاني، الذي كان يديره حينذاك المرحوم بوزي الميراني (أبو علي).
وفي مساء (٢٤/٣/١٩٩١)، أخبرت الجهات الأمنية مام جلال بأن الأرصاد الجوية تؤكد بأن الأمطار سوف تتوقف غداً، وبأنه بات بإمكانهم السفر متى يشاؤون، ويقول الدكتور أحمد بامرني الذي كان يرافقه في رحلته هذه، بأن مام جلال وبعد سماعه هذا الخبر، قال لهم: (انشروا في الفندق خبراً على أنني سأعود إلى الشام، وبأن الرئيس حافظ أسد يريد أن يلتقي بي قبل أن أعود إلى كردستان..) ، وكان ذلك تكتيكاً يهدف إلى التمويه على موعد العودة إلى كردستان، وفي الصباح الباكر من يوم (٢٥/٣/١٩٩١)، تفاجأ الجميع بتوجه موكب مام جلال نحو المعبر الحدودي سيمالكا (فيشخابور). 
ومن دمشق كان قد انضم إلى الوفد المرافق لمام جلال أيضاً نائب رئيس منظمة أطباء بلا حدود (مارسيل لوروا)، مع ممثله في سوريا (نيكول دو ميتز)، وكلاهما كانا يريدان القيام بتلك الرحلة في سرية تامة، فكانا يتظاهران وكأنهما صحفيان مستقلان، ولذلك اختلطا مع ذاك العدد الكبير من الصحفيين الذين جاؤوا من كافة أنحاء العالم، وكانوا يحاولون الوصول إلى العراق في أقرب وقت ممكن لتغطية الانتفاضة العارمة التي عمت جميع مدن كردستان العراق وبلداتها وقراها، ولكي يصبحوا شهود عيان على تحريرها.
وفي الطريق إلى معبر سيمالكا، يسأل بامرني فجأة مام جلال إن كان يتقن السباحة أم لا، فيجيبه مام جلال بالنفي، وبعد وصولهم إلى المعبر شاهدوا النهر هائجاً ومياهه مخضبة بالأوحال وهي تجرف معها جذوع الأشجار وأغصانها، بينما كان هناك قارب صغير يقوده شاب يافع، ويشق به النهر ذهاباً وإياباً، ولا يحمل معه أكثر من ثلاثة أشخاص فقط في كل مرّة، فضلاً عن أن محرك القارب كان ينطفئ في وسط النهر بين الحين والآخر فيسارع سائقه إلى تشغيله وإعادته للعمل من جديد، الأمر الذي أثار القلق لدى مرافقي مام جلال من خطورة مغامرة ركوبه هذا القارب الصغير.. وفي هذا المجال يقول احمد بامرني الذي لم يكن يفارق مام ولو للحظة، ويرى بأن سلامته مسؤولية تاريخية يتحملها أمام ضميره وأمام الشعب: (حقيقة كنت أعلم بأننا إن سقطنا في الماء سوف لن يحالفنا الحظ أن ننجوا معاً بسبب سرعة المياه، وإن حصلت كارثة كهذه، سوف لن أسامح نفسي أبداً لأنني لم أستطع منع حصولها، كما أن الشعب الكردي أيضاً سوف لن يسامحني أبداً، لأن وجود مام جلال في مثل هذا الوقت، كان ضرورياً جداً ومصيرياً، ولذلك كان عليّ أن أكون يقظاً جداً، وأن أوصله إلى الضفة الأخرى سالماً بأي ثمن كان..) .
وفي مغامرة أقرب إلى الانتحار يصعد مام جلال بجسمه الثقيل إلى ذاك القارب الصغير، ويجلس أحمد بامرني إلى جانبه الأيمن، وإلى يساره يجلس شاب يتقن السباحة جيداً، ويبدأ القارب بالحركة بين أمواج النهر الفائض ليشق طريقه إلى الطرف الآخر بصعوبة شديدة وسط دعاء الحضور وابتهالاتهم، حيث كانت في استقباله هيرو خان وعدد من البيشمركة التابعين لسكرتارية مام جلال، وحشود كبيرة من المستقبلين الذين عاشوا لحظات صعبة من القلق وحبس الأنفاس إلى أن عبر مام جلال النهر بسلام، فيقول الدكتور بامرني: (صحيح أن العبور استغرق عدة دقائق فقط، ولكنها بالنسبة لي كانت تعادل عدة ساعات..) .

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket