تعريف ما يحدث

الاراء 02:47 AM - 2015-10-06
ساطع راجي

ساطع راجي

حتى وقت قريب كان الفهم المستقر لمصطلح (صراع) انه يعني عمليا المواجهة والاصطدام او حتى التنافس بين قوتين، وهذا الفهم لم يعد مناسبا للتعامل مع ما تعيشه منطقة الشرق الاوسط من فوضى عارمة في السلاح والخنادق والافكار والمصالح وفي مقترحات التهدئة والتسوية ومحاور الاستقطاب، وتظهر فكرة تصنيف الحروب والخنادق في المنطقة على انها مجرد مواجهة عقائدية طائفية بين السنة والشيعة وهي الفكرة الاسخف على الاطلاق، اذ لا مكان في هذا العالم لهكذا صراع يريد تسوية التاريخ واقامة محكمة عابرة للزمن تعيد الحقوق الى اصحابها او تبرئ بعض الاشخاص مما اكتسبوه تاريخيا من ادانات، هذا التصنيف الاولي للخنادق ليس الا السطح اللامع الذي تحتاجه تعبئة الجماهير الساذجة وينتمي الى الثنائيات البسيطة ردعا لأي تفكير أعمق.

الشرق الاوسط لا يشهد مواجهة واحدة حتى يمكن تصنيف خنادقها، بل نحن امام حزمة من المواجهات تختلف وتتناقض فيها حتى المحاور الدولية الكبرى، هذه الحزمة تثير سيلا من الاسئلة عن المصادفة التاريخية التي جعلت عددا من البلدان تخرج من صورة الدولة الى الفوضى العارمة وفي ايام معدودة، فوضى لم يكن يتصورها احد ولم تسجلها اية مخيلة خصبة، فوضى تدعو للشك في كل الافكار وفي النخب والمؤسسات الاجتماعية الكبرى وفي مراكز الابحاث، فوضى لا مثيل لها تنتج عنها ظواهر تتناقض مع كل ماهو متوقع (زحف اللاجئين في اوروبا مثلا)، هذه الفوضى تخرج كل الشياطين الفكرية المقموعة وتسمح بفوضى مماثلة في محاولات فهم وتعريف ما يحدث.

تصحو مجتمعاتنا يوميا على مشاهد مرعبة وافكار دموية وتستسلم هذه المجتمعات لكل ما يقال لها حتى عندما تكون الاقوال صادرة عن مجهولين، اسماء تنفجر فجأة في الاعلام لنصدق بعد نشرة اخبار او خبر عاجل انها تتحكم بمصائرنا، لنجرب وضع قائمة باسم الفصائل والشخصيات التي يقدمها الاعلام والمحللون والقوى الغربية ورؤساء اجهزة المخابرات على انها تصنع الاحداث في مجتمعاتنا، لنفحص تاريخ هذه الفصائل والشخصيات سنجد ان معظمها مجهول عمليا وصرنا نثق بوجوده وقوته وقدراته لأن الاعلام والمتحدثين الرسميين يكررون اسماءهم. لقد توهمنا ان الشيوع والتكرار يعني الحقيقة، كما تناسينا الاسئلة الاولى والشك الانساني الاصيل والبدئي، وعبر القناعات السريعة يهرول الافراد الى الانتماءات الدموية، لأنهم مهووسون بتصنيف انفسهم الى احدى الطائفتين او الى متشددين ومعتدلين دينيا او الى متدينين وعلمانيين، الى عشاق لمحور روسيا – ايران - سوريا وما يتبعه من دول وفصائل او عشاق لمحور قطر - تركيا - السعودية - أمريكا وما يتبعه من دول وفصائل، وكل يلقي بلائمة الدم والدمار على الآخر، ولأن عقولنا حبيسة لفكرة الصراع الثنائي ننسى أوروبا دائما وبسبب مشاعر الانانية والمركزية نظن ان قضايا وصراعات منطقتنا هي الاهم في العالم ولا نجرؤ على التفكير في احتمالية ان هامشيتنا هي ما تجعل من هذه المنطقة مجرد ساحة بائسة لصراعات اخرى، ساحة تمول الصراعات التي تدور فوقها بفضل فوضاها التي تسمح بازدهار شتى النشاطات الاقتصادية المحرمة وكذلك بفضل ثرواتها النفطية وايضا بفضل تعصب وجهل سكانها المستعدين دائما لخوض الحروب العبثية.

صورة المقاتل اليمني وهو يقف تحت شعار ديني متطرف ويحمل بندقية روسية الصنع او بندقية صينية تقلد الروسية وخنجرا تراثيا بينما تنتفخ احدى وجنتيه بخزينه من القات، بثياب رثة وفي مكان مهدم أو قفر أو قذر يهتف ضد دولة ما، هي الصورة الاكثر دقة عن كل مجتمعاتنا، هي التعبير الاوضح للفوضى والتناقض والتيه، هذا التيه الذي نريد الهرب منه بادعاء المعرفة والفهم وما ينتج عنهما من اطمئنان يسمح لنا بالاستمرار في حياة يومية روتينية تنسينا الخراب الذي نعيشه والخطر الذي يبعد بضعة كيلومترات عن اية مدينة في هذه المنطقة.

يؤكد علماء مناهج البحث ان تعريف القضية هو الخطوة الاولى والاساسية لدراستها، وما يحدث في الشرق الاوسط لم يحصل حتى الآن على تعريف والأسوأ عدم وجود رغبة في ايجاد هذا التعريف، إذ نستسهل الصورة الجاهزة التي انتجها الاعلاميون والدعاة ورجال السياسة، صورة تمنح الدين (تشددا وانقساما) الدور الاول والوحيد فيما يحدث وهي صورة مجتزأة تركز على عنصر صراعي واحد وهي لا تفسر ما يحدث وتقود الى تكريس الفوضى بلا اية حلول على اعتبار ان ما يدور هو صراع بين الكفر والايمان او الخير والشر أو الصواب والخطأ وهو صراع لا يتقبل تسوية او تفسيرا، هو صراع ينهي نفسه بنفسه او يقضي على المشتركين فيه.

وعلى أهمية دور الافكار في حزمة الصراعات الدائرة تبقى الاولوية للمصالح ولأن مجتمعات المنطقة استسهلت التفسير الديني فانها تعترف بالمصالح لكن تتجاوزها بسرعة الى حد التجاهل وتغرق في التفسير الديني لأنه يداعب يأسها وجهلها.

 

 

ساطع راجي / عن الصباح البغدادية

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket