في ظل المتنفذين السياسيين والشركات الإعلامية

الاراء 05:42 PM - 2015-07-15
عدالت عبد الله

عدالت عبد الله

 تراجع الحريات الصحفية وتقهقر الديمقراطية الأمريكية !
           
بالرغم من أننا - بفضل متابعة بعض الدراسات الإعلامية النقدية والإطلاع على تجارب بعض الدول المتقدمة في مجال الإعلام- أصبح لدينا، الى حد ما، خلفية عن طبيعة النظام الديمقراطي الأمريكي السائد والوجوه المختلفة له من حيث الإشكاليات والمآزق غير المرئية التي تكشف لنا حقيقة هذا النظام وحيثياته وتُجَرِده من الصور الوردية النادرة التي تلتصق به دون التحقق مما هو موجود على أرض الواقع، إلا أن الفيلم الوثائقي المعنون بـ( ظلال الحرية- Shadows of Liberty) الذي قام بإخراجه المخرج الأمريكي “جون فيليب ترمبلاي” والذي كتب عنه بدقة وتأنٍ، الكاتب “ قيس قاسم “ بمقال تحت عنوان( ظلال الحرية) في الولايات المتحدة الأمريكية، يقدم لنا صورة أوضح وأكثر تعبيراً ودقة عما آلت اليه حرية الإعلام والصحافة في هذا البلد، الذي يوصف غالباً وبلغة دعائية متهافتة بأنه معقل الديمقراطية وأهم أكبر الديمقراطيات في العالم .
مقاربة تشومسكي !
و قبل أن نقف على ما يتضمنه هذا الفيلم الوثائقي والنتائج التي توصل اليها، ينبغي أن نشير بعجالة الى كتاب مُلفت للمفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” عن الإعلام، الذي يحمل عنوان (السيطرة على الإعلام، الإنجازات الهائلة للبروباجدندا) ذلك لأن هذا الكاتب يسلط الضوء على ما لا نعرفه نحن عن بعض الحقائق حول عالم الصحافة والميديا وتضرب لنا أيضاً أمثلة لإظهار أساليب الخداع التي ينتهجها الإعلام الأمريكي، وذلك إنطلاقاً من حقيقة  مايجري في بلده تحديداً من ممارسات إعلامية يرى البعض بأنها عادت على الديمقراطية الأمريكية وبالاً وتسببت في تراجع نظامها السياسي ومصداقيته والحاق الضرر المعنوي به على أكثر من صعيد. يقول تشومسكي في كتابه المذكور، قبل كل شيء، أن ثمة مفهومين للديمقراطية، المفهوم الأول يَعتَبر المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه العامة (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرة.. ويرى تشومسكي هنا بأنه إذا ما بُحث عن المعنى اللغوي لكلمة الديمقراطية في القاموس فستجد ذات التعريف، أما المفهوم الآخر للديمقراطية، فهو أن يُمنع العامة من إدارة شؤونهم وكذا من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة، ويبدو لتشومسكي بأن هذا المفهوم للديمقراطية هو مفهوم مستهجن أو شاذ للديمقراطية ولكن - برأيه - من المهم بمكان فهم أن ذلك هو المفهوم الحاكم .   يشير تشومسكي في بداية كتابه الى هذين المفهومين بغية إحالتنا الى مشكلة وسائل الإعلام والتضليل المعلوماتي الذي تمارسها، ويروي لنا بدايةً تجربة الدعائية الحكومية التي قامت بها النظام الحاكم فی بلده أثناء إدارة الرئيس وودرو ويلسون(1856-1924م) الذي أنتخب رئيساً للولايات المتحدة في عام 1916م وفق برنامج إنتخابي بعنوان “ سلام بدون نصر” وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى. يروي تشومسكي في هذا الصدد ويقول : في تلك الأثناء، أي عام 1916م، كان المواطنون مسالمين لأقصى الدرجات ولم يروا سبباً للإنخراط والتورط في حرب أوربية بالأساس بينما كان على إدارة ويلسون إلتزامات تجاه الحرب. فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها ( لجنة كريل) وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين الى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب والرغبة في تدمير كل ماهو ألماني وخوض حرب وإنقاذ العالم!.
الإعلام، من سيطرة الحكومة
إلى الشركات!
أشرنا هنا الى ما يلفتنا اليه تشومسكي في رواية هذا الحدث ودور الإعلام في مجال تغيير الرأي العام وتعبئته من موقف مسالم الى موقف مؤيد للحرب على الآخرين، لنقول أنه فعلاً مقاربة قريبة جداً عما يحيلنا اليه اليوم جون فليب المخرج لفلم ظلال الحرية، بل يمكن القول بأن ما ذهب اليه تشومسكي هو بمثابة ما يؤكد عليه فليب ولكن بشكل فني وإعلامي رائع في فلمه الوثائقي عن حقيقة الممارسات الإعلامية في الولايات المتحدة في ظل سيادة المفهوم الثاني للديمقراطية، التي يمنع العامة فيها إدارة الوسائل الإعلام، وربما الفارق الضئيل بين ما تناوله تشومسكي فكرياً وما أبدع فيه فنياً وإعلامياً جون فيليب في فلمه الوثائقي، هو أن في التجربة التي يشير اليها تشومسكي نجد أن وسائل الإعلام هي وسائل خاضعة مباشرةً لما تملي عليها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس وودرو ويلسون، كما أن اللجنة الدعائية المكلفة لتعبئة الرأي العام لقبول الولوج في الحرب هي لجنة حكومية بحتة دون إشراك القطاع الخاص أو الشراكة معه على غرار ما يحدث اليوم، أما في الفيلم الوثائقي الذي يقدمه لنا جون فيليب عن حقيقة الحريات الإعلامية في الولايات المتحدة فنلاحظ أن الشركات الإعلامية أو الاتحادات الاعلامية الكبرى هي التي تتحكم بالمعلومات والسيطرة عبر مديات زمنية بعيدة،على أفكار الناس وعقولهم.
مآل الحريات الإعلامية
بمعنى آخر أن هذا الوثائقي يؤكد لنا - كما يقول الكاتب قيس قاسم- عدة حقائق عن الحريات الإعلامية والديمقراطية الأمريكية، أبرزها هي:
- الديمقراطية الأمريكية باتت مهددة ولا يُبقي التطور الخطير الذي يشهده الإعلام في أمريكا من حرية الإعلام الحقيقي، سوى ظلال باهتة.
- اختفاء الصحافة المحلية تقريباً في معظم الولايات المتحدة الأمريكية.
- إنضواء الكثير من الصحف المستقلة تحت جناح حفنة من الشركات التجارية العملاقة مثل: “تايم وورنر” و”نيوزكوربريشن” و”ديزني”.
  وعلى المستوى السياسي، يشير لنا هذا الفيلم أن ثمة تحالفات كبيرة بين الإتحادات الإعلامية في الولايات المتحدة والمتنفذين من السياسيين وهم في تبادل ضارخ للمصالح كما ظهرت في التجربة العراقية، إذ كشف الوثائقي كيف ضلل الإعلام الأمريكي مواطنيه بأساليب مخادعة حتى تبرر شن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “ جورج دبليو بوش” حربه ضد النظام العراقي السابق. وأشار قيس قاسم في تعليقاته على الفيلم الى مقابلة من المقابلات التي أجريت ضمن الفيلم الوثائقي مع أمبراطور الإعلام المعاصر “ روبرت مردوخ” والتي يقول فيها مردوخ بصراحة بأنهم دعموا سياسة بوش ووقفوا معه وذلك لقاء تأمين السياسيون لأكبر قدر من حرية إمتلاك الشركات التجارية لوسائل الإعلام، والمثال عل ذلك هو فكرة الإتحادات الإعلامية التي بدأ الرئيس رونالد ريغان (1911-2004م) أولى الخطوات العملية لتطبيقها عبر تغييره القوانين الأساسية لتنظيم الإعلام وضمان حريته وذلك حين أعطى الحق لرجل واحد امتلاك أكبر عدد من المؤسسات الاعلامية وفي مدينة واحدة.
مصالح مشتركة
ويذكر قاسم أيضا سير كل من الرئيسين السابقيين كلينتون وبوش الإبن على نفس النهج في التعامل مع الشركات التجارية الإعلامية، لا سيما الرئيس بوش، لأن الفيلم يشير الى حقائق أخرى بشأن هذه المصالح المشتركة بين المتنفذين السياسين والشركات الإعلامية، منها:
 كشف الوثائقي تعاون بوش مع الشركات التجارية ومساعدتها في اطباق سيطرتها الكاملة على الاعلام، مقابل دعم حملته الانتخابية. لقد ضمنت الشركات التجارية بإحتكارها لوسائل الاعلام قدرتها على ابعاد كل ما من شأنه تعريه ممارساتها. شجعت الشركات على خلق نوع من الصحفيين تتوافق طريقة عملهم مع مصالحها، وكانت أولى نتائج هذا العمل تغيير “نوع” البضاعة الاعلامية المستهلكة، فبدلاً من خلق مجتمع المعلومات ظهر مجتمع الأخبار السريعة والاعلانات التجارية. كشف حقيقة أن مسؤولي الإعلام هم من أكثر المقربين من قادة البلاد وأصحاب الشركات ويسجل الوثائقي لحظة وقوف أحد مدرائها، الى جانب الرئيس بوش وهو يعلن بدأ الحرب على العراق.
تجهيل المواطن !
 علاوة على كل ذلك، يزودنا هذا الفيلم نحن الإعلاميين والباحثين في هذا المجال بحقائق لاذعة عما هو سائد في الولايات المتحدة من سياسات إعلامية والعوامل المؤثرة في توجيه هذه السياسات، ويبين لنا بكل وضوح بأن مجرد التظاهر بممارسة الحريات الديمقراطية أمر غير مجدي، وأن السيطرة على الإعلام كما هو عنوان كتاب تشومسكي، لا تضمن التغطية على كل ما يجري على أرض الواقع، ذلك لأن هذه السيطرة بحد ذاتها تشكل خطراً كبيراً على النظام الديمقراطي فضلاً عن إستبعاد المواطنين من حق الوصول الى المعلومة والحقيقة، الذي يشكل جوهر الوظائف التي ينبغي على الإعلام توفيره للمواطن حتى يشارك هذا الأخير مشاركة فعالة في حقل السياسة ويحافظ على مصالح البلد عبر هذا الحق الدستوري، ذلك لأن ضمان الديمقراطية هو أساساً يقف على وعي المواطن بما يحدث في بلده ومحيطه الخارجي، لكن وكما يؤكد لنا الفيلم الوثائقي، أصبح المواطن الأمريكي الآن، في ظل سيطرة الشركات التجارية الإعلامية، يعرف عن تجارة الجنس ومشاهير هوليوود، أكثر مما يعرفه عن الاقتصاد والبيئة، كما أن المجتمع الأمريكي في أغلبيته محجوب عنه الكثير من الأخبار عما يجري في الخارج، وبشكل عام تنقص المواطن الأمريكي المعلومات، لأسباب لها صلة بمصالح اقتصادية وسياسية لحفنة من المتنفذين وأصحاب الشركات الكبرى الذين يريدون السيطرة على أفكار الناس، وهذا ما يسيء دون شك الى مصداقية الولايات المتحدة في ممارسة الحريات الصحفية حتى لدى مواطنيه. وقد كشفت قبل أعوام دراسة إحصائية أعدتها مؤسسة جالوب المتخصصة في أبحاث الرأي العام والدراسات الإحصائية، أن 44% فقط من الشعب الأمريكي يثق في وسائل الإعلام الأمريكي بوجه عام، إلا أن النسبة هذه أنخفظت بشكل حاد إلى 28% فقط فيما يتعلق بالثقة في الصحف وقنوات الأخبار التلفزيوني.، وهذا يعني من جملة ما يعنيه أنه بالرغم من محاولات الشركات الإعلامية المبرمجة لتضليل الحقائق التي تستهدف المصالح المشتركة للمتنفذين السياسيين ومصالحها وإخفاء المعلومات عن الأمريكيين في الكثير من القضايا، إلا أن الآن أصبح المواطن الأمريكي أكثر وعياً بالتلاعبات الإعلامية وصار هناك تشكيك كبير لدى معظم الشعب الأمريكي بمصداقية الإعلام الأمريكي رغم ادعاء هذا الإعلام للحياد والإيجابية والتغطية المتوازنة للأحداث.
عدالت عبدالله

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket