نظام جديد تحكمه الحرب الباردة؟

الاراء 09:55 AM - 2015-01-29
نظام جديد تحكمه الحرب الباردة؟

نظام جديد تحكمه الحرب الباردة؟

مع انتهاء العام 2014، بات من الواضح أن البنية السياسية الأوروبية والدولية التي ظلت قائمة منذ العام 1989 فشلت في اجتياز اختبار الزمن. بل إن العالم لم يشهد مثل هذه البيئة المتوترة المشحونة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث يأتي سَفك الدماء في أوروبا والشرق الأوسط على خلفية انهيار الحوار بين القوى الكبرى. ويبدو أن العالم أصبح على حافة حرب باردة ثانية، بل ويزعم البعض أن الحرب قد بدأت بالفعل.

في الوقت نفسه، نجد أن الهيئة الدولية الرئيسية في العالم -مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- نادراً ما تلعب دوراً أو تتخذ إجراءات حاسمة لوقف الحرائق والقتل. لماذا لم تتصرف بعزم لتقييم الموقف ووضع برنامج للعمل المشترك؟

أحد الأسباب الرئيسية في اعتقادي أن الثقة التي بنيت من خلال العمل الشاق والجهود المشتركة لإنهاء الحرب الباردة قد انهارت الآن. وفي غياب هذه الثقة، يصبح من غير الممكن أن نتصور استمرار العلاقات الدولية السلمية في عالم اليوم الذي تحكمه العولمة.

لكن هذه الثقة لم تتقوض بالأمس القريب فقط؛ لقد حدث ذلك قبل فترة طويلة. وتمتد جذور الموقف الحالي إلى أحداث وقعت في تسعينيات القرن العشرين.

كان من المفترض أن تحدد نهاية الحرب الباردة بداية الطريق نحو أوروبا جديدة ونظام عالمي أكثر أمناً. ولكن، بدلاً من بناء مؤسسات الأمن الأوروبي الجديدة ومتابعة السعي إلى تحقيق هدف نزع السلاح في أوروبا -كما وَعَدت منظمة حلف شمال الأطلسي في إعلان لندن في العام 1990- أعلن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، النصر. وتلاعبت نشوة النصر برؤوس قادة الغرب. واغتناماً لفرصة ضعف روسيا والافتقار إلى أي ثِقَل موازن آخر، رفض زعماء الغرب الالتفات إلى التحذيرات ضد ادعاء احتكار الزعامة العالمية.

كانت أحداث الأشهر القليلة الماضية عواقب منطقية للسعي قصير النظر إلى فرض الإرادة وتجاهل مصالح الشركاء. وإذا أعددنا قائمة مختصرة لهذه الحقائق الثابتة، فإنها سوف تضم توسيع حلف شمال الأطلسي، والحرب في يوغوسلافيا (وخاصة كوسوفو)، وخطط الدفاع الصاروخي، والعراق، وليبيا، وسورية. ونتيجة لذلك، تحول ما كان مجرد ندبة إلى جرح نازف متقيح.

إن أوروبا هي التي تعاني الآن أكثر من غيرها. فبدلاً من قيادة التغيير في عالم يتجه نحو العولمة، تحولت القارة إلى ساحة للاضطرابات السياسية، والمنافسة على مجالات النفوذ، والصراع العسكري. والنتيجة الحتمية هي أن أوروبا باتت ضعيفة في وقت تكتسب فيه غيرها من مراكز القوة والنفوذ مزيداً من القوة. وإذا استمر هذا الوضع، فإن أوروبا سوف تخسر نفوذها في الشأن العالمي بشكل حتمي، وسوف تتحول تدريجياً إلى كيان بلا أهمية تُذكَر.

لكن من حسن الحظ أن تجربة الثمانينيات تقترح سبيلاً إلى الأمام. ففي ذلك الحين، لم يكن الوضع الدولي أقل خطورة مما هو عليه اليوم. وبرغم من هذا، نجحنا في تحسينه -ليس فقط في تطبيع العلاقات، بل وأيضاً في إنهاء مواجهة الحرب الباردة نفسها. وقد تحقق ذلك في المقام الأول من خلال الحوار. لكن المفتاح إلى الحوار هو الإرادة السياسية وتحديد الأولويات الصحيحة.

اليوم، لا بد أن تكون الأولوية الأولى للحوار في حد ذاته: تجديد القدرة على التفاعل، والإصغاء، واستماع كل منا للآخرين. وقد بدأنا نشهد الآن مؤشرات واعدة، بالرغم من أن الجهود الأولية لم تسفر إلا عن نتائج متواضعة وهشة: اتفاق مينسك بشأن وقف إطلاق النار والفصل بين المتحاربين في أوكرانيا؛ واتفاق الغاز الثلاثي المبرم بين روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي؛ ووقف تصعيد العقوبات المتبادلة.

يتعين علينا أن نستمر في التحرك بعيداً عن الجدال والاتهامات المتبادلة، وأن نتوجه نحو البحث عن نقاط التقارب والإلغاء التدريجي للعقوبات التي تلحق الضرر بالجانبين. وكخطوة أولى، لا بد من إلغاء العقوبات الشخصية التي تؤثر على الشخصيات السياسية والبرلمانية، حتى يتسنى لهم أن يعودوا إلى الانضمام إلى عملية البحث عن حلول مقبولة من الطرفين. وربما يكون أحد مجالات التفاعل هو مساعدة أوكرانيا في التغلب على العواقب التي خلفتها الحرب بين الأخوة، وإعادة بناء المناطق المتضررة.

يصدق نفس القول على التحديات العالمية وأمن عموم أوروبا. ذلك أن المشاكل العالمية الرئيسية اليوم -الإرهاب والتطرف، والفقر والتفاوت بين الناس، وتغير المناخ، والهجرة، والأوبئة- تزداد سوءاً بمرور كل يوم. وبالرغم من اختلافها، فإنها تشترك في سمة أساسية واحدة: لا يمكن حل أي منها بالسبل العسكرية. ومع ذلك، فإن الآليات السياسية اللازمة لحل هذه المشاكل إما مفتقدة أو مختلة، حتى في حين ينبغي للأزمة العالمية المستمرة أن تقنعنا بالسعي إلى إيجاد نموذج جديد قادر على ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي والبيئي -ودون تأخير.

أما عن أمن أوروبا، فلن يصلحه سوى الحل الشامل لأوروبا بالكامل لتحقيق غاية الأمن. والواقع أن المحاولات المبذولة لمعالجة المشكلة من خلال توسيع حلف شمال الأطلسي أو تبني سياسة دفاع أوروبية مشتركة كلها هدّامة.

 ونحن في حاجة إلى مؤسسات وآليات أكثر شمولاً وتعمل على تقديم التأكيدات والضمانات للجميع.

في هذا الصدد، لم تكن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي علقنا عليها الكثير من الآمال، على قدر المهمة حتى الآن. وهذا لا يعني ضرورة الاستعاضة عنها بكيان جديد، خاصة وأنها تتولى الآن وظائف المراقبة والسيطرة المهمة في أوكرانيا. ولكن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تُعَد في اعتقادي صرحاً يحتاج إلى إصلاحات كبرى وبعض البناء الجديد.

قبل سنوات، اقترح وزير الخارجية الألماني السابق هانز ديتريتش جينشر، ومستشار الأمن القومي الأمريكي برينت سكوكروفت، وغيرهما من صناع السياسات، إنشاء مجلس أو هيئة تتولى ضمان أمن أوروبا. وقد اتفقت معهم على نهجهم. وعلى نفس المنوال، أثناء تولي رئيس الوزراء الروسي الحالي دميتري ميدفيديف رئاسة روسيا، دعا إلى إنشاء آلية للدبلوماسية الوقائية الأوروبية والمشاورات الإلزامية في حالة وجود تهديد لأمن أي من الدول. ولو كانت مثل هذه الآلية قد وُضعت، فربما كان بوسعنا أن نتجنب أسوأ الأحداث في أوكرانيا الآن.

لا شك أن القادة السياسيين يتحملون اللوم عن إفشال هذه وغيرها من "الأفكار الأوروبية" القابعة في المحفوظات. لكن اللوم لا بد أن يوجه أيضاً إلى الطبقة السياسية الأوروبية بالكامل، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام.

بالرغم من أنني متفائل بطبعي، فلا بد أن أعترف بأنه من الصعب للغاية أن يبعد المرء التشاؤم عن نفسه مع اقتراب بداية العام 2015 من نهايته. لكنه لا ينبغي لنا مع ذلك أن نستسلم للذعر واليأس، أو أن نسمح لأنفسنا بالانجرار إلى دوامة من الجمود السلبي. بل يتعين علينا أن نعمل على تحويل التجربة المريرة التي شهدناها في الأشهر الماضية إلى إرادة حازمة للعودة إلى الحوار والتعاون.

هذا هو ندائي الذي أوجهه إلى قادتنا وكل واحد منا في العام 2015: دعونا نفكر، ونقترح، ونعمل سوية.

ميخائيل غورباتشوف / بروجيكت سنديكيت

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket