سينهض العراق مجدداً بالمدنية

الاراء 09:46 AM - 2015-01-29
سينهض العراق مجدداً بالمدنية

سينهض العراق مجدداً بالمدنية

الزراعة ليست أمرا يسيرا في سهل الرافدين. فالموضوع يتعدى زرع بذرة وثم انتظار الأمطار. المناخ كان ولا يزال صعبا جدا، ويتطلب جهدا اكبر لزراعة المحاصيل. فالمياه الجارية من مرتفعات الأناضول وزاكروس وكردستان لا تفيض بانتظام يشابه انتظام نهر النيل. وعملية نقل الماء من الشط الى الأراضي المحاذية للفراتين لا تعالج معضلة ملوحة الأرض. الزراعة كانت تتطلب شق الجداول والمبازل، على مدى كيلومترات عديدة، وهذا امر يتجاوز قدرة عائلة واحدة او حتى قدرات قرية بأكملها. كان الأمر يتطلب ظهور دولة تُسخِّر موارِدُها كي تقوم بهذه الأعمال الكبيرة. وكي تعمل هذه الدولة، كان عليها ان تجبي الضرائب على المحاصيل السابقة، وثم تُبوّب هذا الوارد لمشاريع البنى التحية. وكي يحصل هذا، كان عليها ان تضع ضوابط وقوانين، وان تستحدث نُظم للمحاسبة وعلوم الرياضيات، وعلوم هندسة الجداول والمياه، وعلوم اللغة والكتابة للتخاطب مع الجماعات والأقوام المنضوية تحت لوائها. فظهرت مِهنٌ أخرى عدا الزراعة كي تنظّم عمل الدولة، وكان على المنتسبين لهذه المهن ان يسكنوا في مكان واحد كي تتكامل جهودهم، وكان على الدولة ان تفك النزاعات على الماء وعلى الأسبقية في الري، وعلى تجاوز الملكية، وان تضع جهازا إداريا يُنظم العدالة ما بين المنتسبين لها، وان تؤسس لمدارس ومعاهد لتدريب كوادر جديدة على هذه المهن، وهذه الأماكن حيث تجمعت كل هذه الموارد والمهن، بدأت تكبر وتتوسع رويدا رويدا، وأصبحت فيما يلي مُدنا، يأتي اليها المهاجر ويجد لنفسه عملا او مهنة يعيل بها أسرته. وهذه المدن، وما تمخض عن العيش المشترك بين أُناس من أجناس وأهواء مختلفة، كانت مهد الحضارات. أي ان الحضارة ظهرت لتنظيم التعايش بين الأفراد، لغرض الإدارة السليمة، التي تستطيع ان تشق انهارا، وتجبي الضرائب، وتحد من النزاعات، وتنمية أجيال جديدة كي يستمر العطاء، وتستمر هذه المجاميع البشرية في تغذية وإكساء نفسها، وضمان تطورها، مع تنامي أعدادها ومُدنها.

ظهرت المدن لسبب بسيط، وهو الوصول الى نظام إداري يكفُل كرامة العيش، واستمراره.

نكرر دوما بان العراق هو مهد الحضارات. و الحضارة في تعريفها الأول، كانت المدنية المنظمة بقانون و مركزية التجارة و توزيع المحاصيل، و لكن تعريف الحضارة تغير مع توالي الزمن، ففي بقعة ما أصبحت الحضارة هي بناء زقّورات تمجّد الآلهة او أهرامات ضخمة لمدافن الملوك و الملكات و في حقبات أخرى أصبحت الحضارة هي بسط نفوذ الأباطرة على الرقعة الأكبر من خارطة الدنيا، و في وقت لاحق تغير تعريف الحضارة و صار مرتبطا بالفن و العلم و البحوث و التجديد الى حين وصل البعض الى تعريف الحضارة بما يصون حق الفرد في مجتمعه و يردع عنه طغيان القوي او المتزمت او المتجبر، والعالم اليوم لديه تعريف اسمى للحضارة، فالحضارة تُفهم لدينا على أنها صيانة حق اضعف فرد في المجتمع و توفير الفرصة لهذا الفرد في اطلاق خصوصيته و عطائه و جعله فعالا و مساهما في حركة الحياة و المجتمع و الاقتصاد. أي ما يعني من بعد آلاف السنين من تطوير مفاهيم الحضارة والمدنية، عاد الإنسان الى ابسط تعريف لها، وهو الوصول الى نظام إداري يكفل كرامة العيش، واستمراره، وهو ما فهمه الأوائل الذين سبقونا في هذه الأرض الطيبة المعطاء قبل سبعة آلاف سنة. أين نحن الآن من مفهوم الحضارة الحالي و قد كنا في يوم من الأيام مهدا و منبعا لمفهوم الحضارة الأول؟

عندما ظهرت فكرة المدنية في العراق، لم تكن مِنّة من سكان هذه الأرض على الإنسانية. وإنما وهبوا الفكرة للبشرية جمعاء. ذهبت الفكرة وانبتت أفكارا أخرى في وادي النيل، وفي الهند، وفي الصين، وحدّق بها الإغريق وفلاسفتهم، وتطور جانبها الإداري لدى الرومان، وتداخلت فيها ديانات الأرض وفسرت جوانب منها من خلال القيّم والأعراف، ودارت حروب حولها، ولمن له الأحقية بها، حروب بين ملوك وأمراء، بين كهنة وأنبياء، وأتى عليها الخراب من غزوات خرجت من الصحاري او من منغوليا او من أواسط آسيا، ودخلت في عصور مظلمة، وثم في عصور النهضة، وفي مرحلة ما عادت وانتعشت الفكرة في واحدة من اعظم مُدن زمانها واعمق تجاربها المدنية، مدينتنا بغداد ما بعد تأسيسها، وثم أخذت الفكرة مُنحنى آخر، فتحولت الى حروب بين طبقات اقتصادية واجتماعية أرادت ان تضمن لنفسها العيش الكريم، وتفجرت الثورات في باريس ومدن أوروبا، وظهرت حركات الإصلاح مثل مناهضة العبودية وتحريمها، وظهرت الاشتراكية، وتلاقحت مع أفكار أخرى، فتفجرت ثورات عديدة أخرى، منها ثورة المرأة في المطالبة بحقوقها،

*كلمة ألقيت في مؤتمر منظمة صوت المرأة المستقلة ورابطة الفنانات التشكيليات حيث تم الإعلان عن ميثاق "نساء لعراق مدني"

 

لامعة طالباني / صحيفة (المدى) 

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket