ثقافة القتل التي لا يعتمدها الأيزيديون

الاراء 10:53 AM - 2014-12-21
زهير كاظم عبود

زهير كاظم عبود

منذ بدء صيرورة العقل والوعي الديني عند الانسان كانت الايزيدية، وكان معها وصاياها وأسس ديانتها التي تقف عليها،  تزامنت مع زمانها ومكانها عبر السبقات الدينية والنصوص المقدسة، وعبر  النصوص المحفوظة في الصدور وتعاليم القوالين ورؤى الكواجك  والموروث الديني،  بالمحبة والتسامح والدعوة الى الخير ولم يكن الموت والقتل من بينها، ولم يكن مطلقا وسيلة أو سبيل لنشر ديانتهم المغلقة عليهم، والمفرطة بالتقييد والالتزام بحدود المكان،وبالرغم من هذا التقييد والتعليمات الصارمة التي توجب طرد وعزل مخالفيهم من ابناء الأيزيدية أنفسهم، لم نطلع على توجيه ديني في كل الأزمنة التي مرت على الأيزيدية، وحتى الصعبة والمريرة منها، يدفعهم للاقتصاص والغدر بمن يخالفهم في الدين والعقيدة، ربما يتحاشونهم أو يقاطعونهم الا انهم قطعا لم يغدروا بهم، ولم يتوجهوا لذبحهم وسبيهم وقتلهم بسبب اختلاف الدين ولا حتى انتقاما أو ثأرا منهم. 

خلال تلك الممارسات الطقسية تبرز طقوس الصلاة والدعاء، حين يتوجه الأيزيدي نحو الشمس، نور الاله الساطع على الأرض، فيتوسل لربه أن يمن على الناس لينشر الخير بينهم عموما، ثم بعد ذلك ينشره بين أهله، التوسل والخضوع الى الله يتم بغياب الناس المخالفين لهم في العقيدة، ولايحتاجون فيها الى موقف منافق أو ترضية لخواطر جيرانهم من المسلمين أو المسيحيين وقبل ذاك اليهود والزرادشتيين، فهم يعتبرون طلب الخير والمحبة بين الناس والتسامح  من أسس العقيدة الأيزيدية. 

يشهدون ان لا اله الا الله الواحد الأحد، وهذه الشهادة بحد ذاتها تجعلهم في صف الموحدين، ولااشتراطات على الأيزيدي في دينه غير الأيمان الصادق بالعقيدة، وصفاء القلب والسريرة تجاه الغير، هم يشهدون بأن الله واحد لا شريك له وليس له والد أو ولد، وهم يؤمنون بالإنسان كيفما كان فقد خلقه الله  جزء من روحه التي لا تفنى، ومن حق الأنسان أن يؤمن بما يشاء، فلا تكفير لهم ولامحرمات عندهم تجاه مخالفيهم في الدين، ليس هناك من موانع سوى أن لاتسيء لدينهم  ومعتقدهم ولاتسخر من طقوسهم ولا لبقية الديانات. 

هذه النصوص الدينية  تحرم عليهم الخيانة والغدر والسلب والنهب  والكذب وقتل النفس، وكما تحرم عليهم مال وحلال وعرض من يتخذونه ( كريفا) ، فيصير أخا لهم في الدنيا، كما يحرمون تحقير بقية الديانات وشتم الانبياء والرسل، لهم طقوسهم الخاصة مثلما يحترمون طقوس الآخرين، لابل يشاركون في طقوس الاخرين مشاركة انسانية ووجدانية. 

((انصح الناس بالخير، واقبل نصائح الخير من الناس، ولا تتعب نفسك وراءها، ولا تغضب عند سماعها)) 

((علمتكم طريق الخير، وعلمتكم طريق الشر، وسهلت لكم طريق الخير لكي لايكون لكم حجة يوم لاينفع الندم)).

ولعل من يعرفهم عن قرب تلمس تلك العلاقة الانسانية الصادقة معهم والأمانة التي تميزوا بها، لم يكتب عنهم التاريخ الذي ظلمهم كثيرا أي موقف مشين، فلم يستغلوا الخلافات السياسية في العراق، ولم يستغلوا ضعف جهة ما ليقفوا ضدها، ولم يكونوا معولا تتخذه السلطات لتهديم الأحزاب الوطنية، لابل اصطفوا مع الثوار والحركات السياسية المطالبة بحقوق وحريات المواطنين، ودفعوا لذلك ثمنا باهضا  من حرية ودماء وأرواح شبابهم خير دليل على ذلك. 

عمل الخير ومساعدة الاخر والعطف على الفقراء والمساكين والتسامح والدعوة للمحبة والتآخي بين البشر من قيم المجتمع الأيزيدي التي يتفاخر ويعتز بها، فلم يفكر أحد منهم أن يقتل أو يجرح انسان لأنه يخالفه في الدين، ولم يقم أيزيدي واحد بسرقة مال أحد من غير دينه، ولم يتعد على شرفه أو عرضه. 

ولعل  ظاهرة الكرافة لدى الايزيدية جديرة بالتقليب والبحث والدراسة والتأمل، هذه الظاهرة الاجتماعية النبيلة التي تفرد بها الايزيدية في المنطقة، وتميزوا بها بين كل الديانات في المنطقة، كانت حقا ظاهرة إنسانية لم يسبقهم اليها شعب من الشعوب، وبالرغم من كون بعض الشعوب تمسكت بظواهر هي قريبة الشبه بالمكارفة، إلا ان ظاهرة الكرافة الايزيدية واسعة وصريحة وصارمة وتعبيرية عن بقاء الحس الإنساني لدى المجتمع الايزدي رغم الجراح والدماء والخسائر الفادحة التي بذلها الايزيديون، دليلا أكيدا على تغلب قيم الخير في الإنسان على قيم الشر،  وسيطرة قيم المحبة والأخوة الإنسانية على نوازع الكراهية والفجور والشر، هذا مما يدعو وبشكل ضروري إلى التركيز لبحث هذه الظاهر الإنسانية والغور بعيدا في معانيها وانعكاساتها على المجتمع الايزيدي وشعوب المنطقة الأخرى. 

وإذا كان الأيزيديون دعاة محبة وسلام فليس من باب الضعف أو الخنوع، لأن قيم دينهم تدعوهم للتمسك  والالتزام بها، مثلما تجبرهم على التمسك بالمكان المقدس في لالش، الا انهم لم تظهر عليهم في تاريخهم المليء بالتضحيات والموت والقتل  ما يشين تلك الصفحات المريرة، مصرون على أن قيم الخير ستنتصر حتما. 

ومع أن موجة الشر الأخيرة  التي اجتاحتهم باسم الدين، ومع أن الممارسات التي مورست ضدهم دليلا أكيدا على التناقض بين ديانة يزعم مروجيها  تدعو للقتل وأخرى تدعو للمحبة، ديانة تدعو لنشر قيمها بذبح  الانسان ونحره كالخراف، وأخرى تفتح صدور شبابها للتضحية من أجل الحياة، ديانة تنتهك الأعراض والشرف، وأخرى تدعو للتماسك الإنساني والأخوة والشرف، ديانة يزعم مروجيها انها تحمل نصوصا تدعو للقتل وإيذاء الآخر وسلب ماله وحلاله  وشرب دمه، وأخرى تدعو لاحترام آدمية الإنسانية وعقيدته وحريته فيها، فأي الطرفين سيبقى وينتصر في النهاية ؟ 

أن حتمية انتصار قوى الخير معروفة تاريخيا، وهي من المسلمات التي اثبتتها تجارب الحياة البشرية، كما أن الهمجية واندفاع الأشرار يمكن أن تحدث ضررا بليغا بالحياة الإنسانية، ويمكن أن تجعل بعض القيم تضعف أو تتزعزع القناعة عند بعض الناس، الا انه في كل الأحوال ومهما كان الأثر والنتائج والخسائر بليغة وكبيرة، فأنها ستكون شاهدة من شواهد التمسك بالفعل بقيم الأنسان الجميلة.  

ستنتهي داعش حتما، وستنهي لعبتها وسيتوقف من يحركها، ولكن سوف لن يشفى الغل والقيح المتجذر في عقول وصدور الحاقدين، وسيلملم الأيزيديون قتلاهم، ويستقبلون بناتهم بالدموع، ويستذكرون أطفالهم المدفونين في الجبل، ويقيمون مآتمهم لفقدانهم الأحبة من شيوخهم ورجالهم،  ويشيدوا النصب لأبطالهم وتضحياتهم التي ترفع الرأس،  وسيتحدثوا  لأجيالهم القادمة عن تلك الصفحة الغادرة، غير أنهم سيرفعون مرة أخرى اكفهم عند شروق شمس الصباح الى الله يدعون بالخير لكل الناس، ثم يطلبونه لأنفسهم وعيالهم، وستعود الأيزيدية أقوى مما كانت. 

 

زهير كاظم عبود / الاتحاد البغدادية 

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket