عصر الفوضى

الاراء 01:24 PM - 2014-11-04
ريتشارد هاس

ريتشارد هاس

يصعب كثيراً تمييز الحقب التاريخية قبل أن تنتهي. لم يصبح عصر النهضة معروفاً بعصر النهضة إلا في وقت لاحق. ويصدق القول نفسه على العصور المظلمة (أو القرون الوسطى) التي سبقت عصر النهضة، أو أي عصور أخرى. والسبب بسيط: من المستحيل أن نعرف ما إذا كان أحد التطورات الواعدة أو المثيرة للقلق سيشكل حدثاً منفرداً أو أنه يمثل بداية اتجاه دائم.

لكنني أزعم، برغم ذلك، أننا نشهد اليوم نهاية حقبة من تاريخ العالم وبزوغ فجر حقبة أخرى جديدة. لقد مر ربع قرن من الزمان منذ سقط سور برلين ونهاية أربعين سنة من الحرب الباردة. ثم أعقب ذلك عصر التفوق الأمريكي، والازدهار المتزايد الذي تحقق لكثيرين، وظهور عدد كبير من المجتمعات والأنظمة السياسية المنفتحة نسبياً، وانتشار السلام، بما في ذلك التعاون الملموس بين القوى الكبرى. والآن، انتهى ذلك العصر أيضاً لتبدأ حقبة جديدة أقل خضوعاً للنظام وأقل سلمية.

يعيش الشرق الأوسط الآن المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عاماً، حيث من المحتمل أن تعمل الولاءات السياسية والدينية على تأجيج صراعات مطولة ووحشية أحياناً داخل وعبر الحدود الوطنية. ومع سلوكها في أوكرانيا وأماكن أخرى، تتحدى روسيا ما كان يُعَد نظاماً أوروبيا مستقراً في الأغلب، والذي تأسس على المبدأ القانوني الذي يقضي بعدم إمكانية الاستيلاء على الأرض بالقوة العسكرية.

من جانبها، عاشت آسيا في سلام في الأغلب الأعم. ولكنه سلام غير مستقر، سلام قد يتلاشى في أي لحظة بالنظر إلى العدد الكبير من المطالبات التي لم يبت فيها بالسيادة على بعض الأراضي والمناطق المختلفة، وهو ما من شأنه أن يثير النزعات القومية، فضلاً عن الافتقار إلى الترتيبات الثنائية أو الإقليمية القوية بالقدر الكافي لمنع نشوب المواجهات أو تهدئتها. ومن ناحية أخرى، فإن الجهود العالمية الرامية إلى إبطاء تغير المناخ، وتعزيز التجارة، ووضع قواعد جديدة للعصر الرقمي، ومنع أو احتواء تفشي الأمراض المعدية، تبدو غير كافية.

تعكس بعض الأسباب الكامنة وراء حدوث كل هذا تغيرات جوهرية تحدث في العالم، بما في ذلك انتشار وتوزع القوة إلى عدد متزايد من الدول والكيانات الفاعلة من غير الدول، والتي تتراوح في تكويناتها من المنظمات الإرهابية والميليشيات المسلحة إلى الشركات الكبرى والمنظمات غير الحكومية. ولن تكون إدارة انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي والتدفقات العالمية من المخدرات والأسلحة والإرهابيين ومسببات الأمراض بالمهمة السهلة، حتى في ظل أفضل الظروف؛ وتزداد المهمة صعوبة وتعقيداً بسبب الافتقار إلى الإجماع بشأن ما ينبغي القيام به من عمل، والافتقار إلى الإرادة اللازمة للعمل -حتى في حالة التوافق على طبيعته.

هناك أسباب أخرى تكمن أيضاً وراء الفوضى العالمية المتنامية، والتي تتعلق بالولايات المتحدة. فقد كانت حرب العراق في العام 2003 سبباً في تفاقم التوترات بين السُنّة والشيعة، وإزالة حاجز بالغ الأهمية أمام الطموحات الإيرانية. وفي وقت أقرب إلى الحاضر، دعت الولايات المتحدة إلى تغيير النظام في سورية، لكنها لم تفعل بعد ذلك سوى أقل القليل لتحقيق تلك الغاية، حتى بعد استخدام القوات الحكومية للأسلحة الكيميائية بشكل متكرر، في تجاهل للتحذيرات الأمريكية. وكانت النتيجة نشوء الفراغ الذي شغله تنظيم "الدولة الإسلامية" في المنطقة. وفي آسيا، فَصَّلَت الولايات المتحدة سياسة جديدة قائمة على المشاركة المتزايدة (أو ما وصفته بأنه تحويل "المحور" الستراتيجي إلى المنطقة). لكن ما فعلته بعد ذلك لم يكن كافياً لتحويل ذلك الأمر إلى حقيقة واقعة.

كانت نتيجة هذه الأحداث وغيرها نشوء شكوك واسعة النطاق حول مصداقية الولايات المتحدة وجدارتها بالثقة. ونتيجة لذلك، بدأ عدد متزايد من الحكومات وغيرها من الكيانات في التصرف بشكل مستقل.

ثمة أيضاً تفسيرات محلية لتنامي حالة عدم الاستقرار العالمية. فالشرق الأوسط يعاني من قدر كبير من عدم التسامح ونقص كبير في الوفاق، سواء بشأن الحدود بين الحكومة والمجتمع، أو الدور الذي يلعبه الدين داخلها. ومن ناحية أخرى، لا تفعل البلدان في المنطقة وبالقرب منها إلا أقل القليل من أجل الحيلولة دون صعود التطرف أو مكافحته متى ظهر وأينما ظهر.

في جانب آخر، تبدو روسيا، بقيادة فلاديمير بوتن، عازمة على استخدام الترهيب والقوة في سبيل استعادة الأجزاء المفقودة من إمبراطوريتها. وتفتقر أوروبا بشكل متزايد إلى السبل أو العقلية اللازمة للاضطلاع بدور عالمي كبير. وتتسامح حكومات عديدة في آسيا مع صعود النزعات القومية، بل انها تشجعها في بعض الأحيان بدلاً من إعداد الشعوب لاستيعاب تنازلات وتسويات صعبة، ولكنها ضرورية، مع الجيران.

ليس المقصود من كل هذا الزعم بأننا مقبلون على عصور مظلمة. فالترابط المتبادل يعمل بمثابة المكابح لما يمكن أن تفعله الحكومات دون أن تلحق الأذى بنفسها. وقد تعافى الاقتصاد العالمي بعض الشيء بعد أن بلغ أدنى مستوياته قبل ستة أعوام. وما تزال أوروبا مستقرة في الأغلب الأعم، كما هو حال أمريكا اللاتينية وقسم متزايد من أفريقيا.

هناك أيضاً أمكانية وقف ودحر الفوضى الجديدة. قد تسفر المفاوضات الدولية عن نتيجة يكون من شأنها أن تجعل إيران بعيدة بالقدر الكافي عن امتلاك القدرة لإنتاج الأسلحة النووية، وهو ما سيساعد في تبديد الشعور لدى جيرانها بالحاجة إلى مهاجمتها أو العمل على إنتاج أسلحة مماثلة لها أيضاً. ومن الممكن اتخاذ خطوات لإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية عسكرياً، والحد من تدفق المجندين والدولارات إليه، ودعم بعض الكيانات التي يستهدفها التنظيم. وقد تدفع العقوبات وانخفاض أسعار النفط روسيا إلى القبول بالتسوية بشأن أوكرانيا. وقد تختار الحكومات الآسيوية اتخاذ الترتيبات الإقليمية الكفيلة بدعم السلام.

لكن من المرجح أن يكون ما قد يمكن إنجازه محدوداً بفِعل السياسة الداخلية للبلدان المختلفة، وغياب الإجماع الدولي، وانحسار نفوذ الولايات المتحدة، وهي التي لا تستطيع أي دولة أخرى أن تحل محلها بحيث قد ترغب قِلة من البلدان حتى في دعمها من أجل تعزيز النظام. والنتيجة هي عالم أقل سلاماً وأقل ازدهاراً وأقل براعة في التصدي للتحديات التي يواجهها مقارنة بحال العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

 

بروجيكت سنديكيت... ريتشارد هاس

شاهد المزيد

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket