مام في الشام

الآراء 11:11 PM - 2023-09-30
مام في الشام

مام في الشام

(٣٧)
(السير في حقل الألغام من دون إصابات مؤثرة)
علي شمدين 
إن أكثر ما كان يميز شخصية مام جلال السياسية هو ثقته العالية بنفسه خلال علاقاته الديبلوماسية مع مختلف الأطراف المعنية بقضية شعبه، حتى مع تلك الأطراف المتناقضة فيما بينها، وقراءته الدقيقة لتلك التناقضات، وقدرته الفائقة على التعامل معها بنجاح لصالح قضيته القومية، لذلك وكما يقول سالار أوسي في كتابه (جلال طالباني: أحداث ومواقف)، فإن:( العلاقات مع دول الجوار، كانت أشبه بالسير في حقل ألغام، ولعل جلال طالباني كان من بين السياسيين الكرد الأكثر انتباهاً وحرصاً على السير فيها دون إصابات مؤثرة، وبما لا يتعارض مع مصلحة الشعب الكردي وحركته التحررية..).
ولاشك بأن أهم تلك العلاقات وأكثرها حساسية هي تلك التي بناها مام جلال مع الرئيس السوري حافظ الأسد من دون أن يكون محكوماً بأيّة شروط ملزمة، هذه العلاقات التي كانت تستند في جوهرها إلى إدراكه الدقيق لعمق التناقضات المتراكمة بين النظامين البعثيين في كل من سوريا والعراق، وتفهمه الشديد للمصلحة المشتركة في العمل معاً من أجل إسقاط هذا النظام الأرعن الذي لم يشكل خطراً عليهما فقط وإنما على المنطقة عموما، فيتابع سالار أوسي قوله: (لعل العلاقة الوحيدة مع دول الجوار العراقي التي بنيت واستمرت في انسجام متصاعد على مدى أكثر من عقدين من الزمن، هي تلك التي بين طالباني وسورية، وإن تخللها في مراحل قصيرة بعض من الجفاء، لكنها سرعان ما أعادت ترميم ذاتها..)، ومن بين مراحل الجفاء تلك، هي مرحلة دخول الاتحاد الوطني الكردستاني في حوار مع الحكومة العراقية عام (١٩٨٣).
فقد كان صدام حسين قد وقع اتفاقية الجزائر مع شاه إيران في (٦/٣/١٩٧٥)، بأمل إنهاء القضية الكردية في العراق إلى الأبد، ولهذا تنازل حينذاك عن نصف شط العرب وعن أجزاء هامة من الأراضي العراقية لإيران مقابل أن يكف الشاه عن دعم الثورة الكردية في كردستان العراق، ولكن مام جلال ورفاقه سرعان ما خيبوا آمال صدام حسين وأجهضوا أحلامه الدكتاتورية هذه عندما بادروا من (الشام)، وبدعم سوري مفتوح، إلى تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني عام (١٩٧٥)، وإشعلوا الثورة الكردية من جديد عام (١٩٧٦)، وقاموا بتأجيج نارها على ذرى جبال كردستان بدماء البيشمركة الأبطال الذين انطلقت مفرزتهم الأولى من مدينة (القامشلي)، بتاريخ (١/٦/١٩٧٦)، ولأن هذه التطورات جاءت متلاحقة وسريعة فإن الحكومة العراقية لم تصدق خبر تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، ومواصلته للكفاح المسلح، وإنما استقبلته باستهزاء وسخرية، فينقل معد فياض عن مام جلال قوله حول ردة فعل صدام حسين تجاه موضوع الحوار الذي طرحه عليه جورج حبش حينذاك، ما يلي: (لقد بارك لنا صديقنا جورج حبش خطوتنا هذه وأثنى على مواصلتنا للنضال والكفاح المسلح، وهو من اقترح أن نفتح حواراً مع الحكومة العراقية وأن نلتقي معهم، وقد نقل لي حبش بأنه فاتح صدام حسين بموضوع لقائنا وأن نجري حواراً معهم، لكن صدام حسين قال له: لو تطلع نخلة براس جلال طالباني ما راح يقدر يصعد ستة مقاتلين إلى الجبل..).
ولكن الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة مام جلال استطاع أن يثبت حضوره بين الجماهير الكردية خلال وقت قياسي قصير، ويصبح رقماً صعباً في المعادلات السياسية الجارية في المنطقة عموماً وفي كردستان العراق خصوصاً، وأن يقود ثورة منظمة في جبال كردستان ويتجاوز مختلف التحديات التي ظهرت أمامها حتى امتد لهيبها إلى عموم كردستان العراق، الأمر الذي شكل ضغطاً قوياً على النظام الدكتاتوري في بغداد الذي كان يخوض حينذاك حرباً ضروساً مع إيران بعد أن ألغى من جهته اتفاقية الجزائر المشؤومة في (١٧/٩/١٩٨٠)، وأرغمه على الرضوخ للواقع وقبول حقيقة وجود الاتحاد الوطني الكردستاني ودوره في قيادة الجماهير الكردية في كردستان العراق، وفي النتيجة دعاه إلى طاولة الحوار في عام (١٩٨٣)، فوافق مام جلال على هذه الدعوة إيماناً منه بمنطق الحوار في حل المسألة الكردية، وبأن الشعب الكردي لم يلجأ يوماً إلى السلاح إلاّ لإرغام مضطهديه على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والحوار السلمي، فيقول سالار أوسي حول ذلك في كتابه المذكور، مايلي: (في العام ١٩٨٣، دُحِر الجيش العراقي في الحرب مع القوات الإيرانية، وهُزِم في خورمشهر، ومواقع أخرى، وبدأ الزحف الإيراني داخل العراق، الأمر الذي شعر معه النظام بالاضطرابات والقلق على مصيره، فعرض على الاتحاد الوطني الكردستاني الهدنة، لتليها مفاوضات بين الجانبين للبحث في إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، وقد لقي عرض النظام قبولاً من طالباني..).
وبقدر ما أثار هذا الموقف الذي أقدم عليه مام جلال وقبوله بالدخول في الحوار مع نظام صدام حسين، حفيظة النظام السوري الذي شعر بالخيبة تجاه حليف قدم له كل الدعم والمساندة من أجل إسقاط نظام صدام حسين بدلاً من الحوار معه، إلا أنه في الوقت نفسه كان هذا الموقف يعكس استقلالية قراره والتزامه بمصلحة شعبه أينما كانت، فهو كان مؤمناً بالحوار مع نظام ضعيف حتى وان كان عمره في السلطة يوماً واحداً فقط أفضل من أن يكون قوياً، وهكذا وكما يقول ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني في دمشق (عبد الرزاق توفيق كويي): ( لقد امتد الجفاء بين الجانبين منذ عام ١٩٨٣، ولغاية عام ١٩٨٧، وذلك عندما عدت أنا إلى دمشق من جديد، ومن ثم جاء وفد ضم  نوشيروان مصطفى، كمال خوشناو، ملازم عمر، د. خسرو خال، وبعد لقاء وفدنا مع الحكومة السورية تم الاتفاق بينهما على افتتاح مكتب حزبنا في دمشق مرة أخرى، وتولى مسؤولية المكتب حينذاك كمال خوشناو..)، لتعود العلاقات كما كانت إلى حين اسقاط صدام حسين ونظامه الدموي.

PUKMEDIA

الأكثر قراءة

لتصلكم اخبارنا لحظة بلحظة

حملوا

Logo تطبيق

app app Logo
The News In Your Pocket